أقسام التقية - السيد منير الخباز

أقسام التقية

السيد منير الخباز

يجدر بنا أن نتحدث قليلاً عن مبدأ التقية، الذي كان سمةً لحياة أغلب الأئمة المعصومين عليهم السلام، حتى قال الصادق عليه السلام : «التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له»(1).

لقد قسم جمع من فقهائنا التقية لثلاثة أقسام:

القسم الأول: التقية الخوفية:

كما ورد في صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام: «التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به»(2).

ومعنى الرواية: أنه ليس لنا أن نلوم مؤمناً، أو فقيهاً، تمسك بالتقية لأننا غير مقتنعين بمنهجه، فإنها تكليف شخصي، وكل إنسان هو المسؤول عن تشخيص الضرورة، التي تَحِلُّ به، وتُسَوِّغ له التقية، واتخاذ جانب الحذر في حياته وتصرفاته من جهة التعامل مع الظلمة. ومثلها صحيحة الفُضَلاء(3) عن أبي جعفرعليه السلام : «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له»(4).

وإذا جازت التقية في اتخاذ الكافر ولياً، وفي قول كلمة الكفر، كما ذكر القرآن الكريم، جازت فيما هو أدون من ذلك بالأولوية. قال عزوجل: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}(5)، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}(6).

ولا يعني هذا أن التقية مبرر لفعل كل محرم، وترك كل واجب، لمجرد دفع الضرر عن النفس.

فقد أفاد سيد الطائفة الخوئي قدس سره، في ج4 من التنقيح، أن التقية قد تكون محرمة، كما إذا ترتب عليها قتل نفس محترمة، أو إذا ترتب عليها اضمحلال الحق، واندراس الدين، وظهور الباطل.

ومَثَّل بسيد الشهداء عليه السلام قائلاً: ولعله من هنا أقدم الحسين عليه السلام وأصحابه لقتال يزيد، وعرضوا أنفسهم للشهادة، وتركوا التقية من يزيد، وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، بل بعض علمائنا الأبرار تقدست أسرارهم، وجزاهم عن الإسلام خيراً كالشهيدين، وغيرهما.

وقد ذكر فقهاء آخرون: أن موثقة مسعدة بن صدقة قد وضعت ضابطا للتقية، عن الصادق عليه السلام: «..وتفسير ما يُتَّقى، أن يكون قوم سوء، ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية، مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز»(7). وتشخيص هذه الموارد الدقيقة وفرز ما يوجب اندراس الدين، مما لا يوجب، بنظر الفقيه الجامع للشرائط، لا بِيَدِ كلِّ أحد.

فهناك فرق بين الموضوعات الصرفة، مثل تشخيص أن في البين ضرراً وحرجاً شديداً أم لا، فهذا مما يوكل تحديده للمكلف نفسه كما تعرضت له صحيحة زرارة السابقة في قوله عليه السلام «وصاحبها أعلم بها حين تنزل به»، وبين الموضوعات المستنبطة، التي يرجع في تحديدها للفقيه، كما في المقام في تشخيص مايوجب اندراس الدين، وما لا يوجب لعلمه بتفاوت الملاكات الشرعية وموارد تأثيرها.

القسم الثاني: التقية الكتمانية:

وقد فصل فيها الكلام الإمام الخميني قدس سره، في كتابه الرسائل، وأفاد أنها عبارة عن التحفظ عن إفشاء أسرار أهل البيت عليهم السلام، ويظهر من الروايات أن التقية التي بالغ الأئمة عليهم السلام في شأنها؛ هي هذه التقية، ولولا التقية لصار المذهب في معرض الزوال والانقراض. ثم استدل على ذلك بصحيحة هشام بن سالم، الواردة في تفسير قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة}(8)، قال الصادق عليه السلام:«الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة»(9)، وذكر بعد صفحات حديثاً عن بصائر الدرجات، لسعد بن عبدالله بسنده الصحيح عن المعلى بن خنيس، قال لي الصادق عليه السلام: «يا معلى اكتم أمرنا، ولا تذعه»، إلى أن قال: «يا معلى إن الله يحب أن يعبد في السر، كما يحب أن يعبد في العلانية، يا معلى إنَّ المذيع لأمرنا كالجاحد له»(10)، والظاهر أن المراد بالأسرار بعض المقامات الخاصة التي ثبتت للأئمة الطاهرين عليهم السلام في ماهية ذواتهم القدسية وحقيقة علقتهم مع الله تعالى، مما لا يتحمل سماعها المؤمن الوسط في المعرفة فضلاً عن غيره، بل قد توجب ارتداده عن الدين، مما يُسَوِّغ إذاعتُها تعريضَ الأئمة عليه السلام للهتك، والطعن، وتعريض المذهب للوهن، والقدح، كما نراه هذه الأيام في بعض القنوات من دون إعارة أي اهتمام لمكانة المذهب أو حرمة أهل البيت عليهم السلام.

وقد عمم سيدنا الخوئي قدس سره في التنقيح، التقية الكتمانية لما يشمل مزايا الشيعة، فقال في ج 5 ص 277: "وأما إذاعة أسرارهم، وكشف الستر عن خصوصياتهم، ومزايا شيعتهم عند العامة، أو غيرهم، فهي محرمة في نفسها، فإن الكشف عن أسرار الأئمة عليهم السلام للمخالفين، أو غيرهم مرغوب عنه، بل أمر مبغوض، وقد نهي عنه في عدة روايات".

وينبغي الرجوع في تشخيص مايناسب طرحه من مقامات المعصومين عليهم السلام وما لا يمكن طرحه لمقام المرجعية، فإنهم الأعرف بحدود هذه الأسرار الخفية علينا ولأجل سد باب الاختلاف والهرج والمرج

القسم الثالث: المداراة:

وهو ماتحدث عنه أستاذ الفقهاء السيد الخوئي قدس سره، وأفاد أن صحيحة الكندي، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إياكم أن تعملوا عملا نُعَيَّر به، فإن ولد السوء يُعَيِّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم»(11)، تدل على أن حكمة المداراة معهم إنما هي المصلحة النوعية، واتحاد كلمة المسلمين، من دون أن يترتب ضرر على تركها، ولم يكن أمره بالمجاملة لأجل عدم انتشار تشيعهم بين الناس، وإنما كان مستنداً إلى تأديبهم بالأخلاق الحسنة، ليمتازوا بها عن غيرهم ويعرفوا الشيعة بالأوصاف الجميلة، وعدم التعصب والعناد واللجاج، وتخلقهم بما ينبغي، حتى يقال: «رحم الله جعفراً، ما أحسن ما أدب أصحابه»(12).

ــــــــــــــــــ

هوامش :

(1) وسائل الشيعة، ج16،ص210

(2) الكافي، ج2، ص219 .

(3) الفضلاء: إسماعيل الجعفي، ومعمر بن يحيى بن سام، ومحمد بن مسلم، وزرارة .

(4) الكافي، ج2، ص220 .

(5) سورة آل عمران، آية 28 .

(6) سورة النحل، آية 106 .

(7) الكافي، ج2، ص168 .

(8) سورة الرعد، آية 22 .

(9) الكافي، ج2، ص217 .

(10) الكافي، ج2، ص223-224

(11) وسائل الشيعة ج16ص219

(12) التنقيح ج5 ص275.

المصدر:

http://www.almoneer.org/news.php?newsid=7435

المشاركات الشائعة من هذه المدونة