الديمقراطيَّة .. مقاربتان - السَّيِّد مجيد المشعل 2012م

الديمقراطيَّة .. مقاربتان
2012/06/07
باسمه تعالى
الديمقراطيَّة .. مقاربتان
المقاربة للديمقراطية يمكن أن تكون على نحوين:
أولًا: مقاربة فكريَّة فلسفيَّة؛ بأن ينظر إليها بما أنّها نظرية فكريّة تعتبر الشُّعوب أساس السُّلطات في النظام السياسي، ومصدر التَّشريع فيما هو الشَّأن العام، وعلى هذا الأساس تكون الديمقراطيّة منهجًا إنسانيًّا؛ لتنظيم الحياة.
وهي بهذا المعنى تمثّل ممارسةً فكريّةً وعمليّةً خاصَّة، تستند على مبادئ المدرسة العلمانيّة والليبراليّة.
ويمكن أن نصطلح على هذه المقاربة باسم: النظرة المتكاملة التفصيليّة للديمقراطيّة "نظريّة الديمقراطيّة".
والملاحظ في هذه المقاربة أنّها تتشكّل من عدّة عناصر أساسيّة:
1- التركيز على البعد الفكري والفلسفي، جانب المحتوى الآيديولوجي للديمقراطيّة.
2- النظرة الشموليّة لها.
3- تمثّل قيمة ذاتيّة.
4- هي قناعة وممارسة خاصّة، تنطلق من مدرسة فكريّة معيّنة، (الجانب الخاصّ من الديمقراطيّة).
5- تمثّل أساسًا ومصدرًا للتشريع.
ثانيًا: مقاربة سياسية؛ وهي النظر إليها كإطار عامّ للممارسة السياسية، وكحالة مقابلة للاستبداد والدكتاتوريّة. وهي بهذا المعنى تمثِّل حالة مضادة للواقع المستبدّ الديكتاتوري، وإطارًا عامًّا لممارسة السياسة بعيدًا عن الاستبداد والدكتاتوريّة، دون أن تمثّل الأساس الفكري لمحتوى الممارسة السياسيّة، واتجاهاتها الاستراتيجيّة، بل يترك ذلك للدين والثقافة والأعراف الحاكمة في المجتمع.
فالديمقراطيّة في هذه المقاربة بمثابة الكأس الذي يمكن أن تسكب فيه الماء أو الخمر، وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه بالنظرة التجزيئيّة للديمقراطيّة.
والملاحظ في هذه المقاربة أنّها تتشكّل من العناصر التالية:
1- التركيز على الجانب العملي للديمقراطيّة، وهو مضادتها للاستبداد والدكتاتوريّة.
2- النظر لها من زاوية خاصّة.
3- التعاطي معها كوسيلة وإطار.
4- النظر إلى الجانب المشترك منها.
5- ليس لها دور التشريع.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو موقف الإسلام والإسلاميين من الديمقراطيّة في ضوء هاتين المقاربتين؟
في مقام الجواب نقول: إنّ الإسلام باعتبارة أطروحة متكاملة شاملة، لها رؤيتها الخاصّة تجاه الكون والحياة، التي تقوم على أساس عقيدة التوحيد، وأنَّ الله تعالى كما هو مصدر الخلق والتكوين، فهو وحده مصدر الأمر والتشريع، فلا شكّ أنّه يتناقض مع مضمون الديمقراطيّة في المقاربة الأولى، ولا يمكن أن يقبل بها، وينسجم معها، بل هو في حرب فكريّة استراتيجيّة معها، وما دام المسلم مسلمًا لا يمكن أن يقبل بغير الله تعالى مشرِّعًا، وبالرسول المصطفى محمّد (صلَّى الله عليه وآله) مبلِّغًا.
وفي مدرسة أهل البيت (عليهم السَّلام) يُعتبر الأئمَّةُ الأطهارُ المعصومون الاثنا عشر الامتداد الشرعي للرسول الكريم (صلَّى الله عليه وآله)، وفي زمن الغَيبة، وخلوّ الساحة العلميّة والسياسيّة من المرجعيّة والقيادة المعصومة، تكون المرجعيّة العلميّة والقيادة السياسيّة للفقهاء العدول، في إطار تخريجات علميّة مذكورة في كتب الفقه.
وعلى جميع التخريجات والصِّيغ العلميّة المعتمدة في الفقه الشيعيّ، فإنَّ النظريّة السياسيّة لا تلغي موقعيّة الشّعوب ودورها في اختيار الحاكم وعزله، كما تبني نظريتها على مبدأ رعاية المصالح العامّة للشّعوب، والحِفاظ على كرامتها الدِّينيّة والدنيويّة.
فالنظريّة السياسيّة في الإسلام تعتمد على مبدأ الرضا العام، ولا تنسجم أبدًا مع الاستبداد والدكتاتوريّة.
وفي ضوء ذلك، يتَّضح أنّ الإسلام في الوقت الذي لا ينسجم مع الديمقراطيّة بحسب المقاربة الأولى، فإنّه ينسجم معها بحسب المقاربة الثانية، لأنّه يرفض الاستبداد والدكتاتوريّة، وقهر الشّعوب وتهميشها، وفي ذلك يلتقي مع الديمقراطيّة، بل الإسلام يفوق غيره في احترام حقوق الإنسان، ومنابذة الاستبداد والدكتاتوريّة، والقهر والظلم، وينفتح على الشّعوب، ويرعى مصالحها، ويحقّق طموحاتها المشروعة بكلّ صدق وجديّة، ولا يفرّط فيها لغلبة أهواء شخصيّة، أولتحقيق بعض المصالح الدنيويّة، كما يحصل مثل ذلك عند غيره من الأطروحات الأرضيّة - مهما كانت راقية ومتقدّمة – بسبب افتقادها للعمق التربوي، والوازع الذاتي المتمثّل في الورع والتقوّى والعدالة.
ومحصّل الكلام: إنَّ الإسلام يكرِّم الإنسان، ويحترم حقوقه، ويحافظ عليها، ومن أهم حقوقه كشعب أن لا يهمّش، ويقهر، وتصادر إرادة في أمر مهمّ ومصيري في حياته، وهو السُّلطة السياسيّة التي تتحكّم في مختلف مفاصل حياته، ويؤثّر فسادها أو صلاحها على وضعه الدنيوي والديني، خصوصًا مع الإلتفات إلى أنَّ كلامنا إنّما هو بلحاظ زمن الغَيبة، الذي يفتقد فيه الواقع للجهة المعصومة التي يمكن أن تؤمّن للشّعب والأمَّة جميع متطلبات الحياة الكريمة بعيدًا عن المراقبة والمحاسبة العامَّة، فمع افتقاد هذه الجهة المعصومة المأمونة لذاتها، فلا مناص من اعتماد الرقابة العامَّة، والمحاسبة والمعاقبة من قبل هذه الجهة العامّة؛ وهي الشَّعب، وعزل الحاكم وتغييرة هو نحو من العقوبة له على تقصيره، أو قصوره.
وبعبارة مختصرة: الديمقراطيّة، بمعنى التداول السلمي للسُّلطة، ومرجعيَّة الشّعب في السُّلطات العامَّة، هو أسلوب من أساليب التأمين للواقع السياسي من الوقوع في الانحرافات والمفاسد الكبيرة، أو لا أقل التقليل منها، وتأمين مستوى من العدالة الاجتماعيّة، وحاكميّة القانون، وكذلك مستوى من العزّة والكرامة، واحترام حقوق الإنسان في المجتمع، التي هي لا شكّ مقاصد وأهداف إسلاميّة مقدّسة.
وهنا يطرح المعارضون؛ للتعاطي مع الديمقراطيّة بالمطلق، إشكالًا، حاصله: إنَّ الديمقراطيّة منهجيّة ذات محتوى شامل لا يمكن تجزئتها، وأنّ مَن يقبل بها، ويتعاطى معها في مواجهة الاستبداد والدكتاتوريّة، فلا مناص من قبوله بنتائجها ومعطياتها اللاحقة في صياغة النظام السياسي والاجتماعي والقتصادي، وإنْ كانت على خلاف الإسلام وقيمه وتشريعاته.
وفي الجواب على ذلك نقول: إنّه يوجد اليوم قبول عامّ بالتعاطي المجتزئ للديمقراطية بما يتناسب والثقافات المختلفة، فيوجد قدر مشترك لا يختلف فيه الشّعوب والمجتمعات وإنْ اختلفت ثقافاتها ودياناتها، وهو مخالفة النظام الدكتاتوريّ وهدمه، وبناء النظام الجديد على أسس حقوق الإنسان، واعتبار الشّعب أساس السُّلطات، كلّ ذلك بما لا يتنافى مع ثقافة ودين وأخلاق أبناء الشّعب.
وبعبارة مختصرة: هناك متطلبات أساسيّة في الديمقراطيّة، لا غنى عنها في أيّ ممارسة ديمقراطيّة، وتمثّل قدرًا مشتركًا في جميع التطبيقات للديمقراطيّة، وهناك تفاصيل ترتبط بثقافة ودين وهُويَّة كلّ مجتمع، لا يمكن التنازل عنها، أو التفريط فيها، ولا بدَّ للممارسة الديمقراطيّة أنْ تنسجع مع هذه المسلَّمات، ولا تتعارض معها، ويكون لها في موارد التعارض التقدّم عليها.
وبعبارة أخرى: يكون لتلك المسلَّمات الثَّقافيّة والدِّينيَّة والأخلاقيّة حاكميّة وتقدّم رُتْبِي على الديمقراطيّة، فلا يفترض أن يقع تعارض أو تزاحم بينهما. وينصّ على ذلك بصورة واضحة في الدستور.
وعلى تقدير وقوع مثل ذلك، فمجتمعاتنا الإسلاميّة الواعية لن تختار على الإسلام وشريعته وأحكامه بديلًا، فيوجد اطمئنان كافٍ بخيارات شعوبنا المسلمة، ولا يوجد تخوُّف على الإسلام من الديمقراطيّة.
وعلى علماء الأمَّة ومثقّفيها القيام بدور التوعيّة تجاه الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وتعميق حالة الارتباط والاعتزاز به، والتَّبعيَّة له، بحيث تترسّخ وتتجذّر هذه الحالة، ولا تتعرّض لأيّ اهتزاز أمام جميع التحديّات الفكريّة والعمليّة.
السَّيِّد مجيد المشعل
6/6/2012 م

المشاركات الشائعة من هذه المدونة