بحث السيد الخوئي اعتبار وحدة الأفق في اثبات الهلال

بحث السيد الخوئي (قدس سره) في مناقشة اعتبار وحدة الأفق او عدمه في اثبات الهلال

[2515] مسألة 4: إذا ثبتت رؤيته في بلد آخر ولم يثبت في بلده: فإن كانا متقاربين كفى (1)، وإلّا فلا (2)، إلّا إذا علم توافق اُفقهما وإن كانا متباعدين.
نص بحث السيد الخوئي (قدس سره):

[1] لا تبعد الكفاية في البلدان التي تشترك في الليل ولو في مقدار، ومنه يظهر الحال في المسألة الآتية. 

(2) لا إشكال في عدم اعتبار كون الرؤية في نفس البلد، بل يكتفى برؤية الهلال في خارجه بمقتضى إطلاق الأدلّة، بل التصريح في بعضها بقبول الشهادة من الشاهدين اللذين يدخلان المصر ويخرجان. 
كما لا إشكال في كفاية الرؤية في بلد آخر إذا كان متّحداً في الأُفق مع هذا البلد وإن لم يَرَ الهلال فيه، للملازمة بينهما كما هو ظاهر، فلا خصوصيّة لهذا البلد بعد ثبوت الهلال في بلد آخر متّحد معه في الأُفق. 
كما لا إشكال أيضاً في كفاية الرؤية في بلد آخر وإن اختلفا في الأُفق فيما إذا كان الثبوت هناك مستلزماً للثبوت هنا بالأولويّة القطعيّة، كما لو كان ذاك البلد شرقيّاً بالإضافة إلى هذا البلد كبلاد الهند بالإضافة إلى العراق، إذ لا يمكن رؤية الهلال هناك من دون قبوله للرؤية هنا، مع أنّه متقدّم وسابق عليها، والرؤية ثمّة متفرّعة على الرؤية هنا، فالثبوت هناك مستلزم للثبوت هنا بطريق أولى، فالبيّنة القائمة على الأوّل تخبر بالالتزام عن الثاني. وهذا كلّه ظاهر. 
إنّما الكلام في عكس ذلك، أعني: ما لو اختلف الأُفق وشوهد الهلال في البلاد الغربيّة، فهل يكفي ذلك للشرقيّة كبلاد الشام بالإضافة إلى العراق، أو لا؟ 
المعروف والمشهور هو الثاني، حيث ذهبوا إلى القول باعتبار اتّحاد الأُفق. وذهب جمع من المحقّقين إلى الأوّل وأنّ الثبوت في قطر كافٍ لجميع الأقطار،
منهم العلاّمة في المنتهي وصاحب الوافي والحدائق والمستند والسيّد الخونساري وغيرهم، ومال إليه في الجواهر، واحتمله الشهيد في الدروس. 

و هذا القول هو الصحيح، إذ لا نرى أيّ وجه لاعتبار الاتّحاد عدا قياس حدوث الهلال وخروج القمر عن تحت الشعاع بأوقات الصلوات أعني: شروق الشمس وغروبها فكما أنّها تختلف باختلاف الآفاق وتفاوت البلدان بل منصوص عليه في بعض الأخبار بقوله (عليه السلام): «إنّما عليك مشرقك ومغربك» إلخ فكذا الهلال. 
و لكنّه تخيّل فاسد وبمراحل عن الواقع، بل لعلّ خلافه ممّا لا إشكال فيه بين أهل الخبرة وإن كان هو مستند المشهور في ذهابهم إلى اعتبار الاتّحاد، فلا علاقة ولا ارتباط بين شروق الشمس وغروبها، وبين سير القمر بوجه. 
و ذلك لأنّ الأرض بمقتضى كرؤيّتها يكون النصف منها مواجهاً للشمس دائماً والنصف الآخر غير مواجه كذلك، ويعبّر عن الأوّل في علم الهيئة بقوس النهار، وعن الثاني بقوس الليل، وهذان القوسان في حركةٍ وانتقال دائماً حسب حركة الشمس أو حركة الأرض حول نفسها، على الخلاف في ذلك، وإن كان الصحيح بل المقطوع به في هذه الأعصار هو الثاني. 
و كيفما كان، فيتشكّل من هاتيك الحركة حالات متبادلة من شروق وغروب، ونصف النهار ونصف الليل، وبين الطلوعين وما بين هذه الأُمور من الأوقات المتفاوتة. 
وهذه الحالات المختلفة منتشرة في أقطار الأرض ومتشقّة في بقاعها دائماً، ففي كلّ آن يتحقّق شروق في نقطة من الأرض وغروب في نقطة اُخرى مقابلة لها، وذلك لأجل أنّ هذه الحالات إنّما تنتزع من كيفيّة اتّجاه الكرة الأرضيّة مع الشمس التي عرفت أنّها لا تزال في تبدّل وانتقال، فهي نسبة قائمة بين الأرض والشمس. 
و هذا بخلاف الهلال، فإنّه إنّما يتولّد ويتكوّن من كيفيّة نسبة القمر إلى الشمس من دون مدخل لوجود الكرة الأرضيّة في ذلك بوجه، بحيث لو فرضنا خلوّ الفضاء عنها رأساً لكان القمر متشكّلاً بشتّى أشكاله من هلاله إلى بدره وبالعكس كما نشاهدها الآن. 
وتوضيحه: أنّ القمر في نفسه جرم مظلم وإنّما يكتسب النور من الشمس نتيجة المواجهة معها، فالنصف منه مستنير دائماً، والنصف الآخر مظلم كذلك، غير أنّ النصف المستنير لا يستبين لدينا على الدوام، بل يختلف زيادةً ونقصاً حسب اختلاف سير القمر. 
فإنّه لدى طلوعه عن الأُفق من نقطة المشرق مقارناً لغروب الشمس بفاصلٍ يسير في الليلة الرابعة عشرة من كلّ شهر بل الخامسة عشرة فيما لو كان الشهر تامّاً يكون تمام النصف منه المتّجه نحو الغرب مستنيراً حينئذٍ، لمواجهته الكاملة مع النير الأعظم، كما أنّ النصف الآخر المتّجه نحو الشرق مظلم. 
ثمّ إنّ هذا النور يأخذ في قوس النزول في الليالي المقبلة، وتقلّ سعته شيئاً فشيئاً حسب اختلاف سير القمر إلى أن ينتهي في أواخر الشهر إلى نقطة المغرب بحيث يكون نصفه المنير مواجهاً للشمس، ويكون المواجه لنا هو تمام النصف الآخر المظلم، وهذا هو الذي يعبَّر عنه بتحت الشعاع والمحاق، فلا يُرى منه أيّ جزء، لأنّ الطرف المستنير غير مواجه لنا لا كلّاً كما في الليلة الرابعة عشرة، ولا بعضاً كما في الليالي السابقة عليها أو اللاحقة. 
ثمّ بعدئذٍ يخرج شيئاً فشيئاً عن تحت الشعاع، ويظهر مقدار منه من ناحية الشرق ويُرى بصورة هلال ضعيف، وهذا هو معنى تكوّن الهلال وتولّده، فمتى كان جزء منه قابلاً للرؤية ولو بنحو الموجبة الجزئيّة فقد انتهى به الشهر القديم، وكان مبدءاً لشهر قمري جديد. 
إذن فتكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة، وهذا كما ترى أمر واقعي وحداني لا يختلف فيه بلد عن بلد، ولا صقع عن صقع، لأنّه كما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض، فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونيّة في جوّ الفضاء. 
و على هذا فيكون حدوثها بدايةً لشهر قمري لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها ومغاربها وإن لم يُر الهلال في بعض مناطقها لمانع خارجي، من شعاع الشمس، أو حيلولة الجبال، وما أشبه ذلك. 
أجل، إنّ هذا إنّما يتّجه بالإضافة إلى الأقطار المشاركة لمحلّ الرؤية في الليل ولو في جزء يسير منه، بأن تكون ليلة واحدة ليلة لهما. وإن كانت أوّل ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر المنطبق طبعاً على النصف من الكرة الأرضيّة دون النصف الآخر الذي تشرق عليه الشمس عند ما تغرب عندنا، بداهة أنّ الآن نهار عندهم، فلا معنى للحكم بأنّه أوّل ليلة من الشهر بالنسبة إليهم.  
و لعلّة إلى ذلك يشير سبحانه وتعالى في قوله: 
(رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ).
باعتبار انقسام الأرض بلحاظ المواجهة مع الشمس وعدمها إلى نصفين لكل منهما مشرق ومغرب، فحينما تشرق على أحد النصفين تغرب عن النصف الآخر وبالعكس. فمن ثمّ كان لها مشرقان ومغربان. 
و الشاهد على ذلك قوله سبحانه:
(يََا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ).
الظاهر في أنّ هذا أكثر بعد وأطول مسافة بين نقطتي الأرض، إحداهما مشرق لهذا النصف، والأُخرى مشرق النصف الآخر. 
و عليه، فإذا كان الهلال قابلاً للرؤية في أحد النصفين حكم بأنّ هذه الليلة أوّل الشهر بالإضافة إلى سكنة هذا النصف المشتركين في أنّ هذه الليلة ليلة لهم وإن اختلفوا من حيث مبدأ الليلة ومنتهاها حسب اختلاف مناطق هذا النصف قرباً وبعداً، طولاً وعرضاً، فلا تفترق بلاد هذا النصف من حيث الاتّفاق في الأُفق والاختلاف في هذا الحكم، لما عرفت من أنّ الهلال يتولّد أي يخرج القمر من تحت الشعاع مرّة واحدة. 
إذن فبالنسبة إلى الحالة الكونيّة وملاحظة واقع الأمر الفرق بين أوقات الصلوات ومسألة الهلال في غاية الوضوح حسبما عرفت. 
هذا ما تقتضيه نفس الحالة الكونيّة. 

وأمّا بالنظر إلى الروايات فيستفاد منها أيضاً أنّ الأمر كذلك وأنّ الثبوت الشرعي للهلال في قطرٍ كافٍ لجميع الأقطار وإن اختلفت آفاقها. 
و تدلّنا عليه:
أوّلاً: إطلاقات نصوص البيّنة الواردة في رؤية الهلال ليوم الشك في رمضان أو شوّال وأنّه في الأوّل يقضى يوماً لو أفطر، فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيره المتّحد معه في الأُفق أو المختلف. 
و دعوى الانصراف إلى أهل البلد. 
كما ترى، سيّما مع التصريح في بعضها بأنّ الشاهدين يدخلان المصر ويخرجان كما تقدّم، فهي طبعاً تشمل الشهادة الحاصلة من غير البلد على إطلاقها. 
وثانياً: النصوص الخاصّة: منها: صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللََّه(عليه السلام): أنّه قال فيمَن صام تسعة وعشرين«قال: إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصرٍ أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً». 
دلّت بمقتضى إطلاقها بوضوح على أنّ الرؤية في مصرٍ كافية لسائر الأمصار وإن لم يُرَ فيها الهلال من غير غيم أو أيّ مانع آخر، ولم يقيّد فيها بوحدة الأُفق مع أنّ آفاق البلاد تختلف جدّاً حتّى في الممالك الصغيرة كالعراق، فإنّ شمالها عن جنوبها كشرقها عن غربها يختلف اختلافاً فاحشاً، فعدم التقييد والحالة هذه وهو(عليه السلام) في مقام البيان يكشف طبعاً عن الإطلاق. 
ومنها: صحيحة عبد الرّحمََن بن أبي عبد اللََّه، قال: سألت أبا عبد اللََّه(عليه السلام)عن هلال شهر رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان«قال: لا تصم إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه». 
دلّت على كفاية الرؤية في بلدٍ آخر، سواه اتّحد أُفقه مع البلد أم اختلف، بمقتضى الإطلاق. 
ومنها: صحيحة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللََّه(عليه السلام)عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان«فقال: لا تصمه إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنّهم رأوه فاقضه». 
وهي في الدلالة كسابقتها. 
و أوضح من الجميع صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللََّه (عليه السلام): أنّه سُئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان «فقال: لا تقضه إلّا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر. وقال: لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلّا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه». 
فإنّ في قوله(عليه السلام): «جميع أهل الصلاة» دلالة واضحة على عدم اختصاص رأس الشهر القمري ببلد دون بلد، وإنّما هو حكم وحداني عامّ لجميع المسلمين على اختلاف بلادهم من حيث اختلاف الآفاق واتّحادها، فمتى قامت البيّنة على الرؤية من أيّ قطر من أقطار هذا المجموع المركّب وهم كافّة أهل الصلاة كفى. 
كما أنّ قوله (عليه السلام) في الذيل: «يقضي أهل الأمصار» مؤكّد لهذا المعنى، وأنّه لا يختلف مصر عن مصر في هذا الحكم، بل هو عامّ لجميع الأقطار والأمصار، وشامل لجميع بقاع الأرض بمختلف آفاقها. 
إذن فمقتضى هذه الروايات الموافقة للاعتبار عدم كون المدار على اتّحاد الأُفق، ولا نرى أيّ مقتضٍ لحملها على ذلك، إذ لم يُذكَر أيّ وجه لهذا التقييد، عدا قياس أمر الهلال بأوقات الصلوات، الذي عرفت ضعفه وأنّه مع الفارق الواضح بما لا مزيد عليه. 
و يؤكّده ما ورد في دعاء صلاة يوم العيد من قوله (عليه السلام): «أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً» فإنّه يُعلم منه بوضوح أنّ يوماً واحداً شخصيّاً يشار إليه بكلمة: «هذا» هو عيدٌ لجميع المسلمين المتشتّتين في أرجاء المعمورة على اختلاف آفاقها، لا لخصوص بلد دون آخر. 
و هكذا الآية الشريفة الواردة في ليلة القدر وأنّها خير من ألف شهر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم، فإنّها ظاهرة في أنّها ليلة واحدة معيّنة ذات أحكام خاصّة لكافّة الناس وجميع أهل العالم، لا أنّ لكلّ صقع وبقعة ليلة خاصّة مغايرة لبقعة أُخرى من بقاع الأرض. 
إذن فما ذهب إليه جملة من الأعاظم من عدم الاعتبار بوحدة الأُفق هو الأوفق بالاعتبار والرأي السديد الحقيق بالقبول حسبما عرفت. 

تنبيه: غير خفي أنّ للقمر على ما ذكره القدماء من الهيئويّين حركتين: حركة في كلّ أربع وعشرين ساعة لها مشرق ومغرب، وحركة أُخرى في تلك الدائرة يدور فيها حول الأرض من المغرب إلى المشرق في كلّ شهر مرّة واحدة، فيختلف مكانه في كلّ يوم عن مكانه في اليوم الآخر. 
و من ثمّ قد يتّفق مع الشمس طلوعاً وغروباً وقد يختلف، فمع الاتّفاق المعبَّر عنه بالمحاق وتحت الشعاع وهو طبعاً في آخر الشهر بما أنّ النصف المستنير فيه بكامله نحو الشمرق ومواجه للشمس لم يُرَ منه أيّ جزء بتاتاً. 
ثمّ بعدئذٍ يختلف المسير فينحرف الطرف المستنير إلى الشرق ويستبين جزء منه وبه يتكوّن الهلال الجديد كما تقدّم إلّا أنّ هذا الانحراف المستتبع لتلك الاستبانة تدريجي الحصول لا محالة، فلا يحدث المقدار المعتدّ به القابل للرؤية ابتداءً، بل شيئاً فشيئاً، إذ كلّما فرضناه من النور فهو طبعاً قابل للقسمة، بناءً على ما هو الحقّ من امتناع الجزء الذي لا يتجزأ. 
فلنفرض أنّ أوّل جزء منه واحد من مليون جزء من أجزاء النصف المستنير من القمر، فهذا المقدار من الجزء متوجّه إلى طرف الشرق، غير أنّه لشدّة صغره غير قابل للرؤية. 
و لكن هذا الوجود الواقعي لا أثر له في تكوّن الهلال وإن علمنا بتحقّقه علماً قطعيّاً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم، إذ العبرة حسب النصوص المتقدّمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادةً حسّيّةً عن باصرة عادية لا عن صناعة علميّة أو كشفه عن علوّه وارتفاعه في الليلة الآتية. 
ومنه تعرف أنّه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلّحة المستندة إلى المكبّرات المستحدثة والنظّارات القويّة كالتّلسكوب ونحوه. من غير أن يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة والنظر العادي. 
نعم، لا بأس بتعيين المحلّ بها ثمّ النظر بالعين المجرّدة، فإذا كان قابلاً للرؤية ولو بالاستعانة من تلك الآلات في تحقيق المقدّمات كفى وثبت به الهلال كما هو واضح.

-----------
المصدر:
موسوعة الامام الخوئي الجزء 22

************

ونقل عنه (قدس سره) في حاشية منهاج الصالحين - الجزء 1:
 
(مسألة 1044):
إذا رؤي الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره مع اشتراكهما في الأفق، بحيث إذا رؤي في أحدهما رؤي في الآخر،بل الظاهر كفاية الرؤية في بلد ما في الثبوت لغيره من البلاد المشتركة معه في الليل و إن كان أول الليل في أحدهما آخره في الآخر.

بيان ذلك أن البلدان الواقعة على سطح الأرض تنقسم إلى قسمين:
أحدهما:ما تتفق مشارقه ومغاربه،أو تتقارب.
ثانيهما:ما تختلف مشارقه ومغاربه اختلافا كبيرا.

أما القسم الأول: فقد اتفق علماء الإمامية على أن رؤية الهلال في بعض هذه البلاد كافية لثبوته في غيرها،فإن عدم رؤيته فيه إنما يستند -لا محالة- إلى مانع يمنع من ذلك،كالجبال،أو الغابات،أو الغيوم،أو ما شاكل ذلك.
وأما القسم الثاني (ذات الآفاق المختلفة): فلم يقع التعرض لحكمه في كتب علمائنا المتقدمين، نعم حكي القول باعتبار اتحاد الأفق عن الشيخ الطوسي في(المبسوط).
فاذن: المسألة مسكوت عنها في كلمات أكثر المتقدمين، و إنما صارت معركة للآراء بين علمائنا المتأخرين:المعروف بينهم القول باعتبار اتحاد الأفق، و لكن قد خالفهم فيه جماعة من العلماء والمحققين فاختاروا القول بعدم اعتبار الاتحاد وقالوا بكفاية الرؤية في بلد واحد لثبوته في غيره من البلدان و لو مع اختلاف الأفق بينها.
فقد نقل العلامة في (التذكرة) هذا القول عن بعض علمائنا واختاره صريحا في(المنتهى) واحتمله الشهيد الأول في (الدروس) واختاره -صريحا-المحدث الكاشاني في (الوافي) وصاحب الحدائق في حدائقه، ومال إليه صاحب الجواهر في جواهره والنراقي في (المستند)، والسيد أبو تراب الخوانساري في شرح (نجاة العباد) والسيد الحكيم في مستمسكه في الجملة.
و هذا القول -أي كفاية الرؤية في بلد ما لثبوت الهلال في بلد آخر مع اشتراكهما في كون ليلة واحدة ليلة لهما معا و إن كان أول ليلة لأحدهما و آخر ليلة للآخر،و لو مع اختلاف وافقهما- هو الأظهر، و يدلنا على ذلك أمران:
(الأول): أن المشهور القمرية إنما تبدأ على أساس وضع سير القمر و اتخاذه موضعا خاصا من الشمس في دورته الطبيعية،و في نهاية الدورة يدخل تحت شعاع الشمس، و في هذه الحالة (حالة المحاق) لا يمكن رؤيته في أية بقعة من بقاع الأرض، و بعد خروجه عن حالة المحاق و التمكن من رؤيته ينتهي شهر قمري، و يبدأ شهر قمري جديد.
و من الواضح، أن خروج القمر من هذا الوضع هو بداية شهر قمري جديد لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها ومغاربها، لا لبقة دون أخرى، وإن كان القمر مرئيا في بعضها دون الآخر، و ذلك لمانع خارجي كشعاع الشمس، أو حيلولة بقاع الأرض أو ما شاكل ذلك، فإنه لا يرتبط بعدم خروجه من المحاق، ضرورة أنه ليس لخروجه منه أفراد عديدة بل هو فرد واحد متحقق في الكون لا يعقل تعدده بتعدد البقاع، و هذا بخلاف طلوع الشمس فإنه يتعدد بتعدد البقاع المختلفة فيكون لكل بقعة طلوع خاص بها.
و على ضوء هذا البيان فقد اتضح أن قياس هذه الظاهرة الكونية بمسألة طلوع الشمس و غروبها قياس مع الفارق،و ذلك لأن الأرض بمقتضى كرويتها يكون -بطبيعة الحال- لكل بقعة منها مشرق خاص و مغرب كذلك، فلا يمكن أن يكون للأرض كلها مشرق واحد و لا مغرب كذلك و هذا بخلاف هذه الظاهرة الكونية -أي خروج القمر عن منطقة شعاع الشمس- فإنه لعدم ارتباطه ببقاع الأرض و عدم صلته بها لا يمكن أن يتعدد بتعددها.
و نتيجة ذلك: أن رؤية الهلال في بلد ما أمارة قطعية على خروج القمر عن الوضع المذكور الذي يتخذه من الشمس في نهاية دورته و أنه بداية لشهر قمري جديد لأهل الأرض جميعا لا لخصوص البلد الذي يرى فيه و ما يتفق معه في الأفق.

ومن هنا يظهر: أن ذهاب المشهور إلى اعتبار اتحاد البلدان في الأفق مبني على تخيل ان ارتباط خروج القمر عن تحت الشعاع ببقاع الأرض كارتباط طلوع الشمس وغروبها بها، إلا أنه لا صلة -كما عرفت- لخروج القمر عنه ببقعة معينة دون أخرى فإن حاله مع وجود الكرة الأرضية وعدمها سواء.
(الثاني): النصوص الدالة على ذلك،و نذكر جملة منها:
1-صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين قال: «إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوما».
فإن هذه الصحيحة بإطلاقها تدلنا -بوضوح- على أن الشهر إذا كان ثلاثين يوما في مصر كان كذلك في بقية الأمصار بدون فرق بين كون هذه الأمصار متفقة في آفاقها أو مختلفة إذ لو كان المراد من كلمة مصر فيها المصر المعهود المتفق مع بلد السائل في الأفق لكان على الإمام (ع) أن بين ذلك،فعدم بيانه مع كونه عليه السلام في مقام البيان كاشف عن الإطلاق.
2-صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)أنه سئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان فقال:«لا تقضيه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر،و قال: لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه».
الشاهد في هذه الصحيحة جملتان: (الأولى) قوله(ع) «لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة» (إلخ)
فإنه يدل -بوضوح- على أن رأس الشهر القمري واحد بالإضافة إلى جميع أهل الصلاة على اختلاف بلدانهم باختلاف آفاقها و لا يتعدد بتعددها، (الثانية) قوله(ع): «لا تصم ذلك اليوم إلا أن يقضي أهل الأمصار» فإنه كسابقه واضح الدلالة على أن الشهر القمري لا يختلف باختلاف الأمصار في آفاقها فيكون واحدا بالإضافة إلى جميع أهل البقاع و الأمصار.
و إن شئت فقل: إن هذه الجملة تدل على أن رؤية الهلال في مصر كافية لثبوته في بقية الأمصار من دون فرق في ذلك بين اتفاقها معه في الآفاق أو اختلافها فيها فيكون مردّه إلى أن الحكم المترتب على ثبوت الهلال -أي خروج القمر عن المحاق- حكم تمام أهل الأرض لا لبقعة خاصة.
3-صحيحة إسحاق بن عمار قال سألت أبا عبد اللّه(ع)عن هلال رمضان يغم علينا في تسع و عشرين من شعبان فقال:«و لا تصمه إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه».
فهذه الصحيحة ظاهرة الدلالة بإطلاقها على أن رؤية الهلال في بلد تكفي لثبوته في سائر البلدان بدون فرق بين كونها متحدة معه في الأفق أو مختلفة و إلا فلا بد من التقييد بمقتضى ورودها في مقام البيان.
4- صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع و عشرين من شعبان فقال«لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه» فهذه الصحيحة كسابقتها في الدلالة على ما ذكرناه.
و يشهد على ذلك ما ورد في عدة روايات في كيفية صلاة عيدي الأضحى و الفطر و ما يقال فيها من التكبير من قوله (ع) في جملة تلك التكبيرات: «أسألك في هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا».ـ
فإن الظاهر أن المشار إليه في قوله (ع) في هذا اليوم هو يوم معين خاص جعله اللّه تعالى عيدا للمسلمين لا أنه كل يوم ينطبق عليه أنه يوم فطر أو أضحى على اختلاف الأمصار في رؤية الهلال باختلاف آفاقها،هذا من ناحية،و من ناحية أخرى أنه تعالى جعل هذا اليوم عيدا للمسلمين كلهم لا لخصوص أهل بلد تقام فيه صلاة العيد.
فالنتيجة على ضوئهما أن يوم العيد يوم واحد لجميع أهل البقاع و الأمصار على اختلافها في الآفاق و المطالع.

و يدل أيضا على ما ذكرناه الآية الكريمة الظاهرة في أن ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في آفاقهم ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة و هذه الليلة الواحدة هي ليلة القدر و هي خير من ألف شهر و فيها يفرق كل أمر حكيم.
و من المعلوم أن تفريق كل أمر حكيم فيها لا يخص بقعة معينة من بقاع الأرض بل يعم أهل البقاع أجمع، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى قد ورد في عدة من الروايات أن في ليلة القدر يكتب المنايا و البلايا و الأرزاق و فيها يفرق كل أمر حكيم، و من الواضح أن كتابة الأرزاق و البلايا و المنايا في هذه الليلة إنما تكون لجميع أهل العالم لا لأهل بقعة خاصة.فالنتيجة على ضوئهما أن ليلة القدر ليلة واحدة لأهل الأرض جميعا،لا أن لكل بقعة ليلة خاصة.
هذا، مضافا إلى سكوت الروايات بأجمعها عن اعتبار اتحاد الأفق في هذه المسألة، ولم يرد ذلك حتى في رواية ضعيفة.
و منه يظهر أن ذهاب المشهور إلى ذلك ليس من جهة الروايات بل من جهة ما ذكرناه من قياس هذه المسألة بمسألة طلوع الشمس وغروبها وقد عرفت أنه قياس مع الفارق.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة