مسألة معونة الظالمين عند الشيخ يوسف البحراني قدس سره

مسألة معونة الظالمين عند الشيخ يوسف البحراني "قدس سره الشريف"

المسألة الثالثةفي معونة الظالمين
والمشهور في كلام الأصحاب، تقييدها بما يحرم، وأما ما لا يحرم كالخياطة لهم والبناء ونحو ذلك فانه لا بأس به.
قال في الكفاية: ومن ذلك معونة الظالمين بما يحرم، أما ما لا يحرم كالخياطة وغيرها فالظاهر جوازه. لكن الاحوط الاحتراز عنه لبعض الاخبار الدالة على المنع، وقوله تعالى: ”ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار ”.
قال في مجمع البيان: فقيل معناه: ولا تميلوا إلى المشركين في شئ من دينكم، عن ابن عباس وقيل: لا تداهنوا الظلمة، عن السدى وابن زيد قيل: ان الركون الى الظالمين المنهى عنه، هو الدخول معهم في ظلمهم، واظهار موالاتهم، وأما الدخول عليهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز. عن القاضى.
وقريب منه ماروى عنهم "عليهم السلام" : ان الركون هو المودة والنصيحة والطاعة لهم انتهى.
اقول: الظاهر من الاخبار الواردة في هذا المقام، هو عموم تحريم معونتهم. بما يحرم وما لا يحرم
منها: ما رواه الكافي في الصحيح عن هشام بن سالم، عن ابى بصير قال: سألت ابا جعفر "عليه السلام" عن اعمالهم، فقال لى: يا ابا محمد، لا ولا مدة قلم، إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله أو قال: حتى تصيبوا من دينه مثله، الوهم من ابن ابي عمير.
وعن ابن ابى يعفور قال: كنت عند الصادق "عليه السلام" فدخل عليه رجل من أصحابنا، فقال له: أصلحك الله تعالى، إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبدالله "عليه السلام": ما أحب أنى عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء، وإن لى ما بين لابتيها، لا ولا مدة بقلم، إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار حتى يحكم الله عزوجل بين العباد.
وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب في الموثق، قال: قال لى أبو عبدالله "عليه السلام": لا تعنهم على بناء مسجد
وعن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على ابى الحسن الاول "عليه السلام" فقال لى: يا صفوان، كل شئ منك حسن جميل، ما خلا شيئا واحدا، فقلت: جعلت فداك، أي شئ؟ قال: إكراوك جمالك هذا الرجليعنى هارونقلت: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا لصيد ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق، يعنى طريق مكة، ولا أتولاه بنفسى، ولكني أبعث معه غلماني. فقال لى: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم، جعلت فداك. فقال لى: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك ؟ قلت: نعم قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وروده في النار. قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها. فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني فقال لى: يا صفوان، بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإن الغلمان لا يفون بالاعمال. فقال: هيهات هيهات، إنى لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر "عليه السلام". فقلت: مالى ولموسى بن جعفر "عليه السلام". فقال: دع هذا عنك، فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك.
وما رواه في عقاب الاعمال، بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليه السلام، عن آبائهعليهم السلام - قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مد لهم مدة قلم، فاحشروه معهم.
وروى الثقة الجليل ورام بن ابى فراس، في كتابه، قال: قال "عليه السلام": من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج عن الاسلام. قال: وقال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة، وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما ولاق لهم دواة! قال: فيجتمعون في تابوت من حديد، ثم يرمى به في جهنم
ويعضد ذلك ما رواه في الكافي، عن سهل بن زياد، رفعه عن الصادق "عليه السلام" في قول الله عزوجلولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النارقال: هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه.
وعن فضيل بن عياض، عن الصادق "عليه السلام" قال: ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله تعالى، أن الله تبارك وتعالى حمد نفسه عند هلاك الظالمين، فقال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وعن أبى حمزة عن على بن الحسين "عليه السلام" في حديث، قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين.
وعن محمد بن عذافر، عن ابيه، قال: قال لى أبو عبدالله "عليه السلام": نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودى بك في أعوان الظلمة؟! قال فوجم أبى، فقال له أبو عبدالله "عليه السلام" لما رآى ما أصابه: أي عذافر، إنى إنما خوفتك بما خوفني الله عزوجل. قال محمد: فقدم أبى، فما زال مغموما مكروبا حتى مات
إلى غير ذلك من الاخبار التى يقف عليها المتتبع.
وهى صريحة في تحريم معونة الظالمين بالامور المحللة، على أبلغ وجه وآكده
وبذلك يظهر لك ما في كلام الفاضل المذكور تبعا للمشهور والكل ناشىء عن الغفلة عن تتبع الاخبار والوقوف عليها من مظانها.
نعم يجب ان يستثنى من ذلك ما إذا ألجأته ضرورة التقية والخوف، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
وأما معونة الظالمين بما كان ظلما ومحرما فيدل على تحريمه: العقل والنقل، كتابا وسنة. ومنه: قوله عزوجلولا تركنوا.. الاية. قيل: والركون هو الميل القليل. وقال في مجمع البحرين في تفسير الاية: أي لا تطمئنوا إليهم، ولا تسكنوا إلى قولهم، والرضا بأفعالهم، ومصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتهم. انتهى.
وحينئذ فإذا كان هذا القدر من الميل إليهم موجبا لدخول النار فبالطريق الاولى إعانتهم على الظلم ومشاركتهم فيه.
وقد تقدم في مرسلة سهل: إن الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه.
وفى باب جمل من مناهي النبي "صلى الله عليه وآله" المذكور في الفقيه، قال "صلى الله عليه وآله": من مدح سلطانا جائرا أو تخفف وتضعضع له طمعا فيه، كان قرينه في النار، قال الله عزوجل: ولا تركنوا.. الاية
وظاهر الخبرين المذكورين: الدلالة على أن الميل إليه لتحصيل شئ من دنياه وحب بقائه ووجوده لذلك، داخل تحت الاية.
ثم ان الظاهر أن المراد من هذا التشديد والتأكيد في هذه الاخبار الواردة في هذا المقام، مما تقدم ويأتي إنما هو سلاطين الجور المدعين للامامة، من الاموية والعباسية ومن حذا حذوهم كما هو ظاهر من سياقها، ومصرح به في بعضها لا مطلق الظالم والفاسق وان كان الظلم والفسق محرما مطلقا.
وعلى هذا فلو أحب أحد بقاء حاكم جور من المؤمنين والشيعة، لحبه المؤمنين وحفظه بيضة الدين من الاعداء والمخالفين، فالظاهر أنه غير داخل في الاية ولا الاخبار المذكورة.
ويعضد ذلك ما رواه في الكافي عن الولد بن صبيح في الصحيح، قال: دخلت على أبى عبد الله "عليه السلام" فاستقبلني زرارة، خارجا من عنده. فقال لى أبو عبدالله "عليه السلام": ياوليد، أما تعجب من زرارة، سألني عن أعمال هولاء، أي شئ كان يريد ؟ أيريد أن أقول له: لا، فيروى ذلك على؟! ثم قال يا وليد، متى كانت الشيعة تسأل عن أعمالهم، إنما كانت الشيعة تقول: يؤكل من طعامهم؟ ويشرب من شرابهم؟ ويستظل بظلهم؟ متى كانت الشيعة تسأل عن هذا؟
وفى الخبر للمذكور ذم لزرارة، ولكن جلالة قدره تقتضي صرفه عن ظاهره والحمل على ما يقتضيه مقامات الحال يومئذ.
إذا عرفت ذلك فاعلم: إن الاخبار قد اختلفت في جواز الدخول في أعمالهم، والولاية من قبلهم.
فمنها: ما دل على المنع من ذلك.
ومنها: ما ظاهره الجواز، لكن بشرط إمكان الخروج مما يجب عليه ويحرم. وبذلك صرح الاصحاب ايضا. فأما ما يدل على الاول من الاخبار، فمنها:
ما رواه في الكافي عن ابراهيم بن مهاجر، قال: قلت لأبي عبدالله "عليه السلام": فلان يقرؤك السلام، وفلان وفلان فقال: وعليهم السلام. فقلت: يسألونك الدعاء، قال: ومالهم؟ قلت: حبسهم أبو جعفر، فقال: ماله ومالهم ؟ قلت: استعملهم فحبسهم، فقال: مالهم ولهذا؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ هم النار، هم النار، هم النار. ثم قال: اللهم اجدع عنهم سلطانهم. قال فانصرفت من مكة، فسألت عنهم، فإذا هم قد خرجوا بعد هذا الكلام بثلاثة أيام
وعن داود بن زربى في الصحيح، قال: أخبرني مولى لعلى بن الحسين "عليه السلام" قال: كنت بالكوفة، فقدم أبو عبدالله "عليه السلام" الحيرة فأتيته، فقلت له: جعلت فداك، لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات، فقال: ماكنت لأفعل، فانصرفت إلى منزلي، فتفكرت فقلت ما أحسبه منعنى إلا مخافة أن أظلم أو أجور. والله لآتينه وأعطينّه الطلاق والعتاق والايمان المغلظة أن لا أظلمن أحدا ولا أجور، ولأعدلن. قال: فأتيته فقلت جعلت فداك، إنى فكرت في إبائك علي فظنتت أنك إنما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، وإن كل امرأة لى طالق، وكل مملوك لى حر، وعلي وعلي إن ظلمت أحدا أو جرت على أحد أو إن لم أعدل، قال: فكيف قلت؟ فأعدت عليه الايمان، فرفع رأسه إلى السماء فقال: تنال السماء أيسر عليك من ذلك
وعن جهم بن حميد، قال: قال لى أبو عبدالله "عليه السلام": أما تغشى سلطان هؤلاء؟ قال: قلت: لا. قال: ولم ؟ قلت: فرارا بدينى، قال: وعزمت على ذلك؟ قلت: نعم. قال لى: الان سلم لك دينك
وعن حميد، قال: قلت لابي عبدالله "عليه السلام": إنى وليت عملا، فهل لى من ذلك مخرج؟ فقال: ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه! قلت: فما ترى؟ قال: أن تتقي الله تعالى ولا تعود.
وما رواه في التهذيب عن ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي، عن ابى عبد الله "عليه السلام" قال: من سود اسمه في ديوان ولد سابع، حشره الله تعالى يوم القيامة خنزيرا.
أقول: ”سابعمقلوبعباسكنى به تقية، كما يقال: رمع مقلوب عمر
وما رواه على بن ابراهيم في تفسيره عن ابيه عن هارون بن مسلم، عن مسعدة ابن صدقة، قال: سأل رجل أبا عبدالله "عليه السلام" عن قوم من الشيعة، يدخلون في أعمال السلطان، يعملون لهم ويجبون لهم، ويوالونهم؟ قال: ليس هم من الشيعة، ولكنهم من أولئك، ثم قرأ أبو عبدالله "عليه السلام" هذه الايةلعن الذين كفروا من بنى اسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريمالى قولهولكن كثيرامنهم فاسقونقال: الخنازير على لسان داود، والقردة عل لسان عيسى،كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلونكانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور، ويأتون النساء أيام حيضهن، ثم احتج الله تعالى على المومنين الموالين للكفار فقال: ”ترى كثيرامنهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم انفسهمإلى قولهولكن كثيرا منهم فاسقونفنهى الله عز وجل أن يوالى المؤمن الكافر إلا عند التقية.
وما رواه العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن الرضا "عليه السلام": ما تقول في عمال السلطان؟ فقال: يا سليمان، الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعى في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التى يستحق بها النار.
إلى غير ذلك من الاخبار التى تجرى هذا المجرى.

ثم إن الواجب على الداخل في أعمالهم رد ما اكتسبه في عملهم على أصحابه، ومع عدم معرفتهم فالواجب الصدقة به عنهم، كما صرح به الاصحاب. والتوبة النصوح في هذا الباب.
ويدل على ذلك خبر على بن ابى حمزة، قال: كان لى صديق من كتاب بنى امية، فقال لى: استأذن لى على أبى عبدالله "عليه السلام" فاستأذنت له، فلما أن دخل سلم وجلس، ثم قال: جعلت فداك، إنى كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبدالله "عليه السلام": لولا أن بنى أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، ما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم. قال: فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لى مخرج منه؟ قال: أن قلت لك تفعل؟ قال: افعل. قال له: فاخرج من جميع ما اكتسب في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه، ومن لم تعرف تصدقت له، وانا أضمن لك على الله تعالى الجنة. فأطرق الفتى طويلا، ثم قال: قد فعلت، جعلت فداك. قال ابن ابى حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئا على وجه الارض إلا خرج منه، حتى ثيابه التى كانت على بدنه. قال: فقسمت له قسمة، واشتريت له ثيابا، وبعثت إليه نفقة، قال: فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض فكنا نعوده قال: فدخلت يوما وهو في السوق، قال: ففتح عينيه، ثم قال: يا على، وفي لى والله صاحبك ثم مات فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبى عبد الله "عليه السلام" فلما نظر إليّ، قال: يا على وفينا والله لصاحبك. قال: فقلت: صدقت، جعلت فداك، هكذا والله قال لى عند موته.
وأما ما يدل من الاخبار على الجواز بالقيد المتقدم ذكره، فجملة من الاخبار إلا أن جملة من الاصحاب عبروا هنامع الأمن من الدخول بالحرام، والتمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكربالجواز. وعبر بعضهم بالاستحباب. وقال بعضهم: إن مقتضى الشرط المذكور هو الوجوب، لإن القادر على الأمر بالمعروف يجب عليه وإن لم يوله الظالم الجائر. وهو جيد.
قال في المسالك: ومقتضى هذا الشرط وجوب التولية، لأن القادر على الامر بالمعروف يجب عليه، وان لم يوله الظالم.
ولعل الوجه في عدم الوجوب كونه بصورة النائب عن الظالم، وعموم النهى عن الدخول معهم وتسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم يبلغ حد المنع، فلا أقل من الحكم بعدم الوجوب، ولا يخفى ما في هذا الوجه. انتهى.
وما ذكره من أن مقتضى الشرط المذكور الوجوب جيد، لكن على تفصيل سنذكره انشاء الله تعالى، بعد نقل الاخبار.

فنقول: من الاخبار في المقام:
ما رواه في الكافي عن زياد بن ابى سلمة، قال: دخلت على ابى الحسن موسى "عليه السلام" فقال لى: يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟ قالقلت: أجل، قال لى: ولم؟ قلت: إنى رجل لى مروة، وعلي عيال، وليس وراء ظهرى شيء، قال: فقال لى: يا زياد، لأن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة أحب إليّ من أن أتولى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم، الا، لماذا؟ قلت: لا أدرى جعلت فداك، فقال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه. يا زياد: إن أهون ما يصنع الله تعالى بمن تولى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من النار، إلى أن يفرغ الله سبحانه من حساب الخلائق. يا زياد: فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك. يا زياد: أيما رجل منكم تولى لأحد منهم عملا ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد: إذا ذكرت مقدرتك على الناس، فاذكر مقدرة الله عليك غدا، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أبقيت إليهم عليك.
وعن ابى بصير عن الصادق "عليه السلام" قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولى ولاية، فقال: كيف صنيعه إلى إخوانه ؟ قال: قلت: ليس عنده خير. قال: أف، يدخلون فيما لا ينبغى لهم، ولا يصنعون إلى اخوانهم خيرا.
ومنها: ما رواه علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن "عليه السلام": ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال: إن كنت لابد فاعلا فاتقّ أموال الشيعة، قال: فأخبرني على انه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردها عليهم في السر.
وعن الحسن بن الحسين الانباري، عن أبى الحسن الرضا "عليه السلام" قال: كتبت إليه: أربع عشرة سنة أستأذنه في أعمال السلطان، فلما كان في آخر كتاب كتبته إليه أذكره أنى أخاف على خيط عنقي، وأن السلطان يقول لى: إنك رافضي، ولسنا نشك في أنك تركت عمل السلطان للفرض، فكتب إلى أبو الحسن "عليه السلام": قد فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وليت، عملت في عملك بما أمرك رسول الله "صلى الله عليه وآله" ثم تصير أعوانك وكتابك أهل ملتك، وإذا صار إليك شيء واسيت به فقراء المؤمنين، حتى تكون واحدا منهم، كان ذا بذا، والافلا.
وعن ابى بصير عن عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من جبار إلا ومعه مؤمن يدفع الله تعالى به عن المؤمنين وهو أقلهم حظا في الآخرة، يعنى أقل المؤمنين حظا لصحبة الجبار
وما في التهذيب عن عمار في الموثق عن أبى عبدالله "عليه السلام" سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل، قال: لا إلا إن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب، ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه ألى أهل البيت "عليهم السلام". 
وما رواه في الكافي عن يونس بن عمار، قال: وصفت لأبي عبدالله "عليه السلام" من يقول بهذا الأمر ممن يعمل عمل السلطان، وقال: إذا ولوكم يدخلون عليكم الرفق وينفعونكم في حوائجكم؟ قال: قلت: منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعل. قال: من لا يفعل ذلك منهم فابرؤا منه، برأ الله منه.
وما رواه في الكافي والفقيه عن على بن يقطين، قال: قال لى أبو الحسن "عليه السلام": إن لله عزوجل مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه
قال في الفقيه: وفى خبر آخر: أولئك عتقاء الله من النار. قال: وقال الصادق "عليه السلام": كفارة عمل السلطان، قضاء حوائج الاخوان.
وروى الكشى في الرجل في ترجمة محمد بن اسماعيل بن بزيع قال: كان محمد بن اسماعيل من رجال أبي الحسن موسى "عليه السلام" وأدرك أبا جعفر الثاني "عليه السلام" وقال حمدويه عن أشياخه: أنه وأحمد بن حمزة كانا في عداد الوزراء، قال: وفى رواية محمد بن اسماعيل بن بزيع: قال الرضا "عليه السلام": إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله تعالى له البرهان، ومكن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله تعالى به أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله تعالى روعة المؤمن في دار الظلم، أولئك المؤمنون حقا. أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الارض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضئ منه القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم، فهنيئا لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله. قال: قلت بماذا جعلني الله فداك؟ قال: يكون معهم فيسرنا بإدخال السرور على المومنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد
وروى الكشى في الكتاب المذكور قال: لما قدم أبو إبراهيم موسى عليه السلام العراق، قال على بن يقطين: أما ترى حالي وما أنا فيه؟ فقال له: يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي.
وروى في قرب الاسناد بسنده عن علي بن يقطين أنه كتب إلى أبي الحسن "عليه السلام" إن قلبى يضيق مما أنا عليه من السلطان، وكان وزيرا لهارون، فإن أذنتجعلني الله فداكهربت منه. فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم
وروى في مستطرفات السرائر مما استطرفه من كتاب مسائل الرجال من عملهم ومكاتباتهم. الى مولانا أبي الحسن على بن محمد الهادى "عليه السلامقال: وكتبت إليه أسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما أتمكن من أموالهم، هل فيه رخصة. وكيف المذهب في ذلك؟ فقال: ما كان الداخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه، ولا محالة قليله خير من كثيره، وما يكفر به ما يلزمه فيه من يرزقه ويسبب على يديه ما يسر له فينا وفى موالينا قال: وكتبت إليه في جواب ذلك، أعلمه أن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل إلى إدخال المكروه على عدوه وانبساط اليد في التشفي منهم، بشيء أن أتقرب به إليهم، فأجاب: من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراما بل أجرا وثوابا.
وروى في المقنع قال: روي عن الرضا "عليه السلام" أنه قال: إن لله تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه.
قال: وسئل أبو عبدالله "عليه السلام" عن رجل يحب آل محمد "صلى الله عليه وآله" وهو في ديوان هولاء فيقتل تحت رايتهم، فقال: يحشره الله على نيته.
وروى في الامالى عن زيد الشحام في الصحيح، قال: سمعت الصادق "عليه السلام" يقول: من تولى أمرا من أمور الناس فعدل، وفتح بابه، ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقا على الله عزوجل أن يؤمن روعته يوم القيامة، ويدخله الجنة.
وروى في الكافي والتهذيب عن محمد بن جمهور وغيره، من أصحابنا قال: كان النجاشيوهو رجل من الدهاقينعاملا على الاهواز وفارس، فقال بعض  أهل عمله لأبي عبدالله "عليه السلام": إن في ديوان النجاشي علي خراجا وهو ممن يدين بطاعتك، فان رأيت أن تكتب لى إليه كتابا؟ فكتب إليه أبو عبدالله "عليه السلام": بسم الله الرحمن الرحيم، سرّ أخاك يسرك الله تعالى. قال: فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه فلما خلا، ناوله الكتاب، فقال: هذا كتاب أبي عبدالله "عليه السلام" فقبله ووضعه على عينيه، قال: ما حاجتك؟ فقال، علي خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: عشرة آلاف درهم. قال: فدعى كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل. ثم قال له: هل سررتك؟ قال: نعم قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال له، هل سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك فأمر له بمركب ثم أمر له بجارية وغلام وتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟ فكلما قال: نعم، زاده، حتى فرغ قال له: احمل فرش هذا البيت الذى كنت جالسا فيه، حين دفعت إلي كتاب مولاى، وارفع إلي جميع حوائجك، قال ففعل وخرج الرجل، فصار إلى أبى عبدالله "عليه السلام" بعد ذلك فحدثه بالحديث على وجهه فجعل يستبشر بما فعل، فقال له الرجل: يا ابن رسول الله، كأنه قد سرك ما فعل بى؟ قال: إي والله، لقد سرّ الله تعالى ورسوله .
أقول: لا يخفى ما في هذه الاخبار، باعتبار ضم بعضها إلى بعض، من التدافع والتمانع
ومجمل القول فيها: إنه لاشك أنه قد علم من الاخبار المتقدمة حرمة الدخول في أعمالهم على أوكد وجه، بل مجرد محبتهم والركون إليهم وحب بقائهم، فضلا عن مساعدتهم وإعانتهم بالاعمال إلا أن الاخبار الدالة على الجواز ظاهرة فيه بالقيود المذكورة فيها، لكنها ظاهرة الاختلاف، فإن منها ما يدل على أنه بالاتيان بتلك الشروط إنما تحصل له بها الكفارة بأن تكون هذه الشروط كفارة لدخوله في العمل، كما يشير إليه قوله في حديث ابى بصير المتقدم: وهو اقلهم حظا في الاخرة. إلى أقل المؤمنين.
وقوله في خبر الحسن بن الحسين الانباري: كان ذا بذا.
وفى خبر زياد بن أبى سلمة: فواحدة بواحدة.
ولعله "عليه السلام" في رواية الانباريكان يعلم عدم حصول القتل عليه بعدم دخوله، وإلا فمنعه عن الدخولوالحال هذهخروج عن الأدلة القطعية آية ورواية في العمل بالتقية، كما لا يخفى. ومنها: ما يدل على أنه ينال بذلك الحظ الاوفر والمنزلة العليا، كما يدل عليه كلام الرضا "عليه السلام" في رواية الكشى.
وأخبار علي بن يقطين وعلو مرتبته عند الكاظم "عليه السلام.
وخبر النجاشي وما قاله الصادق "عليه السلام" في حقه.
ويؤيده خبر منع الكاظم "عليه السلام" لعلي بن يقطين عن الخروج من أعمالهم.
والتحقيق في ذلك: إن هنا مقامات ثلاثة:
(الاول): أن يدخل في أعمالهم لحب الدنيا، وتحصيل لذة الرياسة، والامر والنهى. وهو الذي يحمل عليه أخبار المنع.
(الثاني): أن يكون كذلك، ولكن يمزجه بفعل الطاعات وقضاء حوائج المؤمنين وفعل الخيرات.
وهذا هو الذي أشير إليه في الأخبار المتقدمة، كما عرفت من قوله "عليه السلام": ذا بذا.
وقوله: واحدة بواحدة
وقوله: وهو أقلهم حظاونحو ذلك.
(الثالث): أن يكون قصده من الدخول فيها، إنما هو محض فعل الخير، ودفع الأذى عن المؤمنين، واصطناع المعروف إليهم، وهو الفرد النادر وأقل قليل، حتى قيل إنه من قبيل إخراج اللبن الخالص من بين فرث ودم.
ويشير إلى هذا الفرد عجز حديث السرائر المتقدم، وعلى هذا يحمل دخول مثل الثقة الجليل علي بن يقطين، ومحمد بن اسماعيل بن بزيع، وأمثالهما من أجلاء الرواة عنهم النجاشي المتقدم ذكره، وكذلك جملة من علمائنا الاعلام، كالمرتضى والمحقق الخواجه نصير الدين والملة، وآية الله العلامة الحلي، ومن المتأخرين المحقق الثاني في سلطنة الشاه اسماعيل، وشيخنا البهائي، وشيخنا المجلسي، و نحوهم "عطر الله مراقدهم". مع تسليم دعوى العموم
وبذلك يزول الاشكال والله العالم.
تتمة مهمة:
أقولومن هنا يعلم الكلام في جواز الدخول في أعمالهم وعدمه، والأصحاب قد صرحوا هنا بأنه لا يجوز الدخول في أعمالهم إلا مع التمكن من القيام بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقسمة الصدقات والاخماس على مستحقيها، وصلة الاخوان، ولا يرتكب في ذلك المآثم، علما أو ظنا، وإلا فلا يجوز الولاية بلا خلاف، كما نقله في المنتهى. وعلى الاول تحمل الاخبار الدالة على رضا الائمة "عليهم السلام" ببعض الولاة كمن أشرنا إليهم في آخر البحث
وعلى الثاني تحمل الاخبار المانعة من الدخول كما تقدم

والظاهر أن القسم الثاني الذى قدمنا ذكره داخل في الاول من هذين القسمين، كما تقدم في رواية الانباري، فهو أعم منهما
والفرق بينهما حينئذمع اشتراكهما في الإذن والقيام بالأمور المذكورةمن جهة ما قدمنا ذكره، من قصد أمر زائد في الدخول على هذه الأمور المذكورة، وهو حب الرياسة والأمر والنهى ونحو ذلك، وعدمه، فمع قصده يكون من القسم الثاني المتقدم ذكره، ومع عدمه يكون من القسم الثالث الذى هو أقل قليل.
وأما لو أكرهه الجائر على الدخول فإنه يجوز له الولاية دفعا للضرر عن نفسه، ولا يجوز له أن يتعدى الحق ما أمكنه، فان أكره على استعمال مالا يجوز شرعا جاز له، ما لم يبلغ إلى الدماء، فإنه لا تجوز التقية فيها على حال.
بقى الكلام في الدماء التى لا تقية فيها، هل هي أعم من القتل والجرح أو مخصوصة بالقتل، قولان.
والمدعي للعموم ادعى ورود رواية بأنه لا تقية في الدماء، والمدعى للتخصيص نقل رواية بأنه لا تقية في القتل.
والذى وقفت عليه من الأخبار في المقام:
ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم، عن ابى جعفر "عليه السلام" قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية.
وروى الشيخ في الموثق عن أبي حمزة الثمالى، قال، قال أبو عبد الله "عليه السلام": إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية.
وأنت خبير بما فيهما من الاجمال، لاحتمال حمل الدم على ظاهره الشامل للجرح، واحتمال إرادة القتل خاصة، فإنه مما يعبر عنه بهذه العبارة غالبا
وبالجملة فالمسألة لأجل ذلك محل إشكال، والله العالم.

المصدر:
الحدائق الناضرة
ج ١٨ ص ١١٨

المشاركات الشائعة من هذه المدونة