عاشوراء واشكالية التطبير للسيد جواد القزويني

عاشوراء واشكالية التطبير للسيد جواد القزويني


يقول الفقهاء (يجب على كل مكلف لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ، أن يكون في جميع عباداته ، ومعاملاته ، وسائر تروكه مقلداً أو محتاطاً..)

لاشك أن كل فعل يصدر من المكلف لابد أن يكون محكوما بأحد الأحكام الخمسة وهي (الوجوب ، الحرمة ، الاستحباب ، الكراهة ، الإباحة) ، وحتى يأخذ فعل المكلف أحد هذه الأحكام لابد من عرض العمل على الفقيه لبيان حكمه وكي يكون الفعل تحت الغطاء الشرعي المبرئ للذمة أمام المولى سبحانه ، هذا كله فيما عدى ما ثبتت ضرورته في الدين كوجوب الصلاة وحرمة الخمر..الخ

وأما باقي الأفعال التي تحتاج إلى إعمال النظر والاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي فلامناص من عرض الموضوع على الفقيه لإعطاء الموضوع حكماً شرعيا يكون مستنداً فيه إلى الأدلة التفصيلية.

هذه المقدمة غاية في الضرورة بسبب الربكة التي تحدث على الساحة الشيعية في كل عام في أيام عاشوراء والتي يكثر فيها الشقاق والقيل والقال نتيجة الاختلاف في موضوع التطبير ، فإننا وعلى مدار العام توجه إلينا اسئلة حول مشروعية التطبير من عدمه ، وهل هو من الشعائر الحسينية أم هو بدعة؟

الأمر الذي قسَم الشيعة الى فريقين تسحقهم ضراوة الخصومة.

ولست هنا أبحث عن مشروعية التطبير من عدمه لأنه أمر موكول لمراجع الطائفة العظام حفظهم الله ، بل سوف أتناول الآلية التي يتم فيها بحث هذا الموضوع بين الشيعة ، وهي آليةٌ للأسف قد بُنيت على تعصب مقيت أخذت أبعاداً حزبية وذوقية بعيدة عن الدليل العلمي مما ساهم في اتساع الفجوة بين الشيعة في الوقت الذي نسعى حثيثاً لبناء الجسور لتقليص الشقّة بين أبناء الطائفة ، لكنهم وللأسف الشديد أخذوا بتفسيق بعضهم البعض مستخدمين نعوتا غاية في القباحة مدّعين أن المحرك لهم في هذا الأمر هو حب الحسين (ع) وغيرتهم على الطائفة والشعائر ، وهم بأفعالهم تلك يساهمون في إيذاء الإمام الحسين (ع) بعد هذه القرون من الزمان من حيث لايشعرون.

كما أسلفنا في المقدمة أن المواضيع التي تحتاج إلى اعمال نظر وبحث هي مواضيع موكولة للفقيه المجتهد الذي يبدي نظره فيها وذلك بعدما يبحث في الأدلة ثم يبين الحكم الفقهي فيها ، وهذا ديدن كل الشيعة العوام منذ الغيبة الكبرى بل حتى في الغيبة الصغرى عندما كانوا يلجأ الشيعة لسفراء الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف فهم يرجعون في مسائلهم العبادية والمعاملاتية للفقيه ، إلا أننا نلمس في مسألة التطبير قفزاً من البعض على وظيفة الفقهاء ومكانتهم في الطائفة ، فأخذ العوام يحرّمون ويحللون وفق أهواء ونوازع ذوقية فكثرت النقاشات العقيمة ، وزادت حدة المهاترات السقيمة وذلك من أجل فرض وجهة نظر فريق على الفريق الآخر.

إن الأمر أبسط من هذا الخلاف والنزاع ، إذ التطبير مسألة تحتاج إلى رأي فقهي من فقيه جامع للشرائط ومعظم الشيعة اليوم يرجعون للمراجع في أخذ أحكامهم ، فمن كانت مسألة التطبير محل ابتلاء بالنسبة إليه رجع فيها لمرجع تقليده فإن أجاز له التطبير كان بالنسبة إليه حلالاً ومن لم يجز له كان التطبير له حراماً.

لكن لُبّ المشكلة في موضوع التطبير تكمن في ما نراه من محاولة حثيثة من الطرفين لفرض وجهة نظره على الآخر، الأمر الذي يكشف عن إفتقار الطرفين لثقافة دينية وأخلاقية ، فراح الطرفان – المؤيد والمعارض – يسلكون طرقاً أبعد ماتكون عن الجادة العلمية والتي تميزت به الطائفة الشيعية زادها الله شرفاً منذ الصدر الأول للإسلام فكثرت الافتراءات والمناشير وحملات التفسيق والأفلام ذات التأثير الدرامي والتقول على المرجعيات دون على رادع ديني أو أخلاقي ، وإقحام مسألة التطبير في اللطميات الحسينية ، وغيرها من الطرق التي يندى لها الجبين.

ولنا مع المعارضين والمؤيدين وقفة أجعلها على شكل نقاط.

الكلام مع المعارضين

1- كونك معارضا للتطبير من الجهة الذوقية هذا لا يعني أن لك الحق أن تفرض ذوقك على الآخرين فليس أحد ملزم بذوقك الشخصي ، غاية الأمر أنك لست مجبراً على ممارسة التطبير ولا يحق لأحد أن يفرض عليك ممارسته ، وحتى لو كنت مقلداً لفقيه يفتي بحرمة التطبير فبالمقابل غيرك ممن يؤيد التطبير أيضا يقلد من الفقهاء من يقول بجوازه فليس من الإنصاف أن تفرض رأي مرجعك على الآخر لأن هذا خلاف معنى التقليد والتنوع الحاصل بين الشيعة في مسألة التقليد.

2- الحكم الشرعي لا يُبنى على المؤثرات الدرامية والأفلام ولا على القراءة التاريخية الخاصة والعادات والتقاليد بل يُبنى على الأدلة العلمية ، وهي أدوات الفقهاء وحدهم يحسنون ويحقّ لهم استخدامها ، وأما محاولة تثبيت أن التطبير من عادات هندية أو رومية فهذا لن يغير ولن يؤثر في الحكم الشرعي إذ الأصل في الأشياء الاباحة كما هو معروف بين العلماء.

3- رميك لمن يطبر بأنه فاسق وأنه غير ملتزم دينيا في باقي الأمور لايضر الحكم الشرعي للتطبير أيضا ، فكم من صائم لايصلي وكم من مصلي يشرب الخمر فهل كونه يشرب الخمر نقول له لا تصلي؟!

4- دعوى أن التطبير توهين للمذهب هي مجرد دعوى في مقابلها الآف الدعاوى التي تفيد العكس فهم يدّعون أن منظر التطبير يلقي الذعر والخوف في قلوب الأعداء ، وهذا أمر إن دخلنا فيه لن ننتهي منه ولن نصل لنتيجة وهو متروك لكل مجتمع وطبيعته.

5- عندما تنقل اراء العلماء في التطبير يجب عليك أن تكون موضوعياً ومحايداً في نقلك لا أن تنقل ما يعضد دعواك فقط وتتجاهل باقي المراجع ممن يفتون بجوازه فهذا خلاف الأمانة العلمية.

6- استنادك لبعض المراجع القدامى (قدس الله أسرارهم) لا ينفع في الوقت الراهن بسبب أنك لن تجد في هذا الجيل ممن يقلد من قد مضى على وفاته أكثر من خمسين عاماً ، فهذا أشبه بالتدليس على العوام إذ كما ذكرنا بدايةً أن التطبير مسألة خلافية بين الفقهاء فهناك من يقول بجوازه وهناك من لا يرى جوازه.

7- دعوى أنك تريد تنقية الشعائر الحسينية من البدع هي في واقعها دعوى للناس بترك المراجع والعلماء والرجوع لذوقك الشخصي وتقليدك فيه وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً ، فإن كان هناك بدع كما تدعي فالمراجع هم المسؤولون عن أداء دورهم لا عوام الناس أو حزب معين.

8- دعوى أنه لا يوجد أي معصوم قد مارس التطبير وعليه فإن التطبير حرام هي دعوى باطلة ، وذلك لأن ليس كل الأحكام الجائزة قد ارتكبها المعصوم بل المعصوم أعطى ضوابط للوصول الحكم الشرعي يستخدمها العلماء في استنباطهم للحكم الشرعي وقد بينا أن أصالة الاباحة احدى هذه الأدلة.

9- لا يصح أن تستند بعض خطباء المنبر الحسيني (أعزهم الله) في الحكم الشرعي إلا أن يكونوا ممن ينقلوا الحكم الشرعي عن الفقيه المجتهد ، فعوام الناس يقلدون المراجع العظام لا الخطباء.

الكلام مع المؤيدين

1- كونك مؤيداً للتطبير والآخر معارض له لا يعني أن لك الحق في فرض وجهة نظرك عليه أو تتوهم للحظة أنك أكثر حباً وولاءاً للإمام الحسين عليه السلام منه ، فلست أنت المسؤول عن عقائد الناس وأفكارهم.

2- بحثك في الأدلة الروائية عن رواية تدعم مسألة التطبير وتقوم بنشرها على أن عملك مستند لهذه الرواية أمر ليس من شؤونك ، فأنت بنهاية المطاف عامي مقلد ترجع في أعمالك للفقيه ، فهو من يحق له النظر في الروايات والاستناد عليها فأنت تأخذ حكمك منه لا من الروايات.

3- بحثك عن مرجع يرى جواز التطبير وعلى أساسه تقوم بالرجوع إليه لمجرد أنه يفتي بالتطبير هو أمر خلاف المسألة المعروفة (يجب تقليد الأعلم) ، فإن قلدت فقيها ولم يكن أعلماً لمجرد أنه يقول بجواز التطبير فعملك باطل.

4- حصر عزاء الإمام الحسين عليه السلام بالتطبير وتسفيه باقي صور العزاء هو أمر محرم لايجوز ، فعزاء الإمام عليه السلام له فضاء واسع وصور مختلفة ولست مؤكلا من أحد كي تصنف صور العزاء وفق ذوقك الشخصي.

5- ممارسة التطبير في مناسبات مختلفة من مصائب الائمة عليهم السلام – غير يوم عاشوراء - معاندةً للفريق الآخر أمر يسلب قصد القربة في العمل ويدخل في المنافسات الدنيوية المقيتة المرفوضة شرعاً.

6- كل الفقهاء الذي افتوا بجواز التطبير قيدوا الجواز بأمرين يجب الانتباه لهما وهو الأمن من الضرر وتوهين المذهب فيجب عليك أيها المؤيد أن وجدت التطبير مضراً لك أو موهنا للطائفة يكون أمراً محرما للتقيد المذكور في فتاوى الفقهاء فتكون محاسباً أمام الله سبحانه.

7- ليس من حقك تفسيق وسلب الإيمان والتشكيك بولاء شخص لمجرد أنه يرفض التطبير فالحسين عليه السلام أكبر من يُختزل بالتطبير.

8- التطبير إن ثبت جوازه ودخل في عنوان استحباب إظهار الجزع على الحسين عليه السلام فهو يبقى مستحبا فلا يجوز أن يستخدمه المؤيد في تفويت ما هو واجب من أمور الشريعة أو يكون طريقا للحرام.

9- من الخطأ أنك تعتبر التطبير من المسائل العقائدية التي لا يحتاج فيها إلى تقليد بل التطبير مسألة فقهية يحتاج فيها لحكم شرعي من الفقيه الجامع للشرائط.

كلمة أخيرة

إن التطبير مسألة فقهية يرجع فيها المكلف للفقيه الذي يقلده ويأخذ منه الحكم الشرعي ، فمن زاد على أكثر من هذا فهو أمر مرفوض وداخل في السجالات المريضة ، والأمر لايحتاج لهذا الارتباك الذي نشهده في كل عام ، فمن كان حقاً غيوراً على الحسين عليه السلام فليدفع من يؤجج هذا النزاع السنوي لمراجع التقليد وليعمل كل مكلف وفق رأي مرجعه.

عاشوراء الحسين عليه السلام مناسبة حزينة فيها يستنهض الشيعة ولائهم لأهل البيت عليهم السلام وهو مأتم عالمي وفيه تتشح الأرض بالسواد والحزن ، فلا تكاد تجد اليوم بقعة في العالم ليس فيها ذكر الحسين عليه السلام ولا تكاد تجد شيعيا واحدا لا يشارك بعزاء آل الرسول ، فليس من الإنصاف بل من المعيب أن يختصم الشيعة فيما بينهم بأمر فقهي بسيط ويُخرجون المناسبة عن إطارها الالهي ، وليأخذ الجميع بعين الاعتبار أن الحسين عليه السلام باقٍ بالتطبير أو بعدمه لأن الله تعالى قدّر أن يبقى الحسين عليه السلام حتى يوم القيامة.

الحسين عليه السلام أكبر من يُزج بمصابه في مثل هذه المهاترات ، والحسين عليه السلام أكبر من يُختزل بممارسة عزاء هنا أو هناك ، فرفقا بعاشوراء الحسين أيها الشيعة.


السيد جواد القزويني

http://www.alqazweeni.com/227




المشاركات الشائعة من هذه المدونة