الإمام الرضا (ع) وولاية العهد- الشيخ محمد مهدي شمس الدّين

الإمام الرضا (ع) وولاية العهد الشيخ محمد مهدي شمس الدّين (قده)

بحث قيّم ألقاه سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد مهدي شمس الدّين ، بمناسبة المؤتمر العالمي الذي عقد في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام).

أهداف المأمون من مشروع إسناد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) وأسباب قبوله. 
وخطة الإمام في إحباط مشروع المأمون واستغلاله لصالحه.

الهدف والأسلوب:

فيما نقدّر، كان هدف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) يتقوّم بأمرين:

الأول ـ حفظ الإسلام من التحريف والتزوير والتأويل الفاسد: وذلك بعدة طرق؛ في مقدمتها التركيزعلى السنة الصحيحة في مقابل الدعاوى الأخرى التي كانت تتأثر في قليل تارة وفي كثيرأخرى بتيارات الحكم القائم وأهواء القيّمين عليه في العصرين الأموي والعباسي. 
لقد كانت رواية الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذباً أوتحريفاً أخطر ما يواجه الإسلام من الداخل بعد استحالة تحريف القرآن كما تم التسلل إلى قدس القرآن لتشويه دلالة قسم من آياته ـ خاصة في المبادئ السياسية والاجتماعية الكبرى ـ عن طريق الحديث الموضوع والمحرّف.
ولذا فقد توجه الأئمة (عليهم السلام) إلى بذل كل جهودهم واستفراغ وسعهم في نشر الحديث بين الناس، واتخاذ جميع الوسائل لتوسيع دائرة انتشاره في الآفاق.

الثاني ـ حفظ أتباع الخط الإسلامي الصحيح: والأقرب بالأقرب من المسلمين. حفظهم من الجهل، وحفظهم من الفتنة، وحفظهم من القتل.
فكان حفظهم من الجهل بالتركيز الشديد على نشر المعارف الإسلامية بينهم ،ونشر المبلغين فيهم، ووضع قاعدة الحوزات العلمية في الآفاق، وتأسيس المرجعية الرشيدة لهم، وذلك بتكون نسبتهم إلى خط أهل البيت (عليهم السلام) نسبة واعية، قائمةعلى المعرفة والاقتناع.
وذلك هو ضمان الاستمرار والصمود أمام المحن والصعاب، لا على العاطفة وحدها والتقليد وحده، لأن ذلك لا يضمن استمرارومناعة مؤسسة فكرية سياسية ثورية كما هو خط أهل البيت (عليهم السلام).
وكان حفظهم من الفتنة بالنهي المتكرر الملح عن الاندماج في هيكليات السلطة الظالمة أوالكافرة، والأمر بالابتعاد عنها، دون الخروج من المجتمع الإسلامي، والأمر بالتواصل مع سائر المسلمين على قاعدة التعايش مع تملك السلطات دون الدخول في بنيتها والمساهمة في تكوينها بالمقدار الذي لا يخل بالنظام العام للمجتمع ولا يخل بالمصالح الأساسية الحيوية للجماعة المنضوية في خط أهل البيت (عليهم السلام).
وكان حفظهم من الفتنة أيضاً بالنهي المتكرر عن الدخول في التحزب لهذا المتسلط أو ذاك من أهل الجور حين ينتازعون السلطان.
وكان حفظهم من القتل والتشريد كأفراد أو كجماعات معزولة عن عمقها، محاصرة في مناطقها بتشريع التقية الذي نفهمه على أساس انه تشريع لحفظ حياة الأفراد ومصالحهم الشخصية حين لا يؤدي ذلك إلى المساس بالقضية المبدئية والالتزام السياسي لمجتمع السياسي.
أما حين تؤدي التقية إلى التخلي عن المبدأ أو الانحراف عنه في القضية السياسية وفي الالتزام السياسي للمجتمع فإنها لا تكون مشروعة، لأنها شرعت لحماية الأفراد حاملي المبدأ والمحافظين عليه بما هم متصفون بهذه الحيثية، وإذن ؛ فالملحوظ في تشريعها هو حفظ المبدأ وإمكانات نجاحه وانتصاره في المستقبل ، فلا يعقل أن تكون سبباً لإضعافه أوالقضاء عليه من أجل حفظ مصالح الأفراد.

هذا الهدف تشخص على المستوى الواقعي التطبيقي بعد استشهاد الحسين (عليه السلام) من خلال معادلة بين ثلاثة عناصر:

1ـالتقية على مستوى الأفراد.
2ـ حفظ النظام العام للمجتمع الإسلامي وللجماعة المسلمة في الشأن الإداري والخدمات العامة للمجتمع.
3ـ رفض إعطاء الشرعية السياسية للنظام الجائر.

وقد تعامل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع الواقع القائم ضمن المساحة التي تحدها هذه الحدود. 
لقد أنتجت هذه المعادلة إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تعاملوا مع الواقع القائم على المستوى الإداري بمقدار ما يتصل بتوفير عناصر ومقومات حفظ النظام العام للمجتمع ، ويوفر مستوى ملائماً من حرية التحرك الآمن لهم ولأصحابهم لتحقيق هدف حفظ انجاز النبوة من التحريف ، ويبقي الموقف السياسي المعارض للنظام الجائر حياً وفعالاً.

ويبقي المشروع السياسي لخط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ في مقابل النظام الجائر ـ حياً ومتحركاً.

إن مكابدة حال كهذه هي دائماً مشكلة أليمة لمن يعمل في الحقل السياسي العام من الإسلاميين، في مرحلة اجتماعية سياسية لا تسمح بثورة كاملة فورية، ويتحمل مسؤوليات متنوعة تجاه المجتمع من خلال موقعه. 

فيجب التنبه لئلا تنعكس المعارضة السياسية على بنية المجتمع إخلالا بالنظام العام من جهة، ولئلا تنكشف مقاتل العمل الإسلامي المستقبلي لمن يتربص به الدوائر من جهة أخرى، ولئلا نتعرض قواعد العاملين لضربات انتقامية تتجاوز طاقة احتمالها من جهة ثالثة. 

وفي مقابل ذلك ينبغي التحلي بالوعي الكامل في كل خطوة وموقف لئلا تؤدي الاستجابة لتلك الضرورات إلى الانزلاق نحو إعطاء الشرعية السياسية للنظام الجائز أو الكافر. 

إن الاستهداء بسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في إدارة العملية السياسية على مستوى الأمة تارة، وعلى مستوى مجتمعات معينة داخل الأمة تارة أخرى يعصم العامل من الوقوع في الخطأ والالتباس في رؤية الحدود التي يجب أن يقف عندها. 
وحين نفحص طبيعة هذا الهدف الذي سجلته وبيّنت معالمه سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بشقيه، نجد أنه من جهة ذو طابع تأسيسي بنائي، وذلك فيما يعود إلى حماية إنجاز النبوة في التبليغ، وحراسة الإسلام من التحريف. ومن جهة أخرى نجد انه ذو طابع دفاعي يتشخص في حفظ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من الجهات التي ذكرناها.

وقد كان المغزى الأعمق لهذا الهدف بشقيه هو إعداد الأمة وإعادة بنائها من جديد بعد النكسة التي نزلت بها في صدر الإسلام، وما ترتب عليها من انحراف في المسألة السياسية وقضية الحكم، تبعه انحراف في الجانب التشريعي من حيث مصدرية ومرجعية السُنّة التي هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد كتاب الله عزّ وجلّ.

وغاية هذا الإعداد هي حفظ النواة السلمية التي تتمثل بأتباع خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والعمل على تأهيلها وتوسعتها باجتذاب أكبرعدد من المسلمين إلى دائرتها، تمهيداً لإقامة دولة على قاعدة الإسلام ونهجه بعد إيجاد أوسع قاعدة إسلامية لها ملتزمة بفكرها ونهجها ، تحميها من جهة، وتكون مرتكز انطلاق لها من ناحية أخرى ، إلى أن يحقق الله تعالى وعده الأكمل والأشمل بظهور بقية الله في الأرض سلام الله عليه وعجّل فرجه.

النقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية:

على هدى هذا الهدف ينبغي أن تدرس الحياة التشريعية الاجتماعية لكل إمام من أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام).
وعلى هذا الهدى ندرس جانباً من الحياةالسياسية للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولعله أكبر وأخطر محطة في حياته السياسية ، هي ولاية العهد للمأمون العباسي وما يتصل بها. 

وسنرى أن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه المحطة من حياته كان قطباً فاعلاً في الأحداث موجهاً لها حتى في حالات كونه في موقع رد الفعل، فان رد فعله ينطلق من مخطط دقيق وعام لا للتصدي للمشكلة التي تواجهه فحسب ، وإنما لمهمته القيادية العليا في الأمة أيضاً.

ويدور البحث هنا حول جوهر مسألة ولاية العهد ، وهو النقطة المركزية فيها وفي المشكلة السياسية الإسلامية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). هذه المشكلة التي نمت وتعاظمت في خط تصاعدي إلى أن بلغت ذروتها بعد استشهاد أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وتفجّرت بثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في سلسلة متواصلة الحلقات من أزمات الحكم طيلة عهد حضور وظهور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والى حين غيبة الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) . وأخذت في عصر الغيبة مناحي أخرى في التعبير عن نفسها.

ما هي النقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية ؟
في العهد الأموي وفي العهد العباسي ، وفيما زامن العهد العباسي ـ في دولة الخلافة الشرقية ـ من أنظمة حكم أخرى كالحكم الأموي في الأندلس، والخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا ، وما تلا هذه الكيانات من دول في شتى أنحاءالعالم الإسلامي مروراً بجميع العهود إلى عهد الدولة العثمانية (الخلافة ) والسلطنة الصفوية كان جميع الحاكمين والهيئات الحاكمة تعتبر أنها إسلامية الهوية والانتماء . تحكم باسم الإسلام، وتمارس سلطانها على الناس في السلم والحرب، والاقتصاد والسياسية والقضاء، وتنظيم المجتمع وغير ذلك من شؤون حياة المجتمع السياسي على اعتبار أنها أنظمة إسلامية تطبق أحكام الإسلام.
وتقوم شرعية هذه الحكومات على دعوى كونها مستمدة من الإسلام . ولكن كيف ؟ ما هو مصدر شرعية القيادة على المستوى التطبيقي؟
إن المسألة على المستوى النظري والتجريدي محلولة, فالكل يدعي الإسلامية، ويطبق الإسلام من منطلق هذا الفهم أو ذاك ، بدرجات متفاوتة من عدم الأمانة للنص الشرعي ، وبانتهاك فاضح في أغلب الأحيان لروح النص الشرعي.

أما على المستوى التطبيقي بشأن مصدر شرعية القيادة فقد ثَمّةَ موقفان متباينان:

الأول ـ الموقف المرتكز على صيغة النص.
الثاني ـ الموقف المتجاهل لصيغة النص ، والمرتكزعلى مبدأ البيعة.
وقد حكم التعارض بين هذين الموقفين وضع الأمة الإسلامية منذ وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أواخر العهد الأموي حين بدأت الدعوة العباسية.

وقد تأصلت صيغة النص في ذهنية الأمة عمقاً وشمولاً، نتيجة لعمل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم في تثقيف الأمة بمسألة النص من جهة ، وبسبب فساد الحكم الأموي وانحرافاته عن الإسلام على مستوى النظر والتطبيق من جهة ثانية، وبسبب ممارسة الحكام الأمويين لصيغة النص على طريقتهم الخاصة من جهة ثالثة , فمنذ عهد معاوية مورست صيغة النص عن طريق ولاية العهد والبيعة المسبقة . لكل ذلك غدت صيغة النص في ذهنية الأمة هي الأساس الوحيد المعترف به عند فريق كبير من المسلمين ، والخيار الأفضل عند بقية المسلمين مصدراً لشرعية السلطة على المستوى القيادي الواقعي والتطبيقي ، وسقطت صيغة البيعة باعتبارها مصدراً وحيداً لشرعية السلطة ، ولم تعد سوى مظهر مكمل لصيغة النص.
وقد واجهت الدعوة العباسية ، حين بدأت ، هذا الواقع في الحياة السياسية للأمة، وفي ذهنيتها ، فاستعملت جميع الرموز والمقولات التاريخية والفكرية للإيحاء بصيغة النص دون التورط في الالتزام الصريح بها ، حذراً من الالتزام بما يقتضيه ذلك من تسليم السلطة إلى صاحبها الشرعي.
فاستعمل الدعاة العباسيون إسم العلويين ، وأهل البيت ، ومصطلح العترة ، واستعملوا باستمرار مصطلحاً غامضاً كان بعض الثوار على الأمويين ـ بعد ثورة الحسين ـ قد استعملوه ، وهو مصطلح الدعوة إلى (الرضا من آل محمد).

لقد كان هذا المصطلح تظهيراً جديداً للموقف المرتكز على صيغة النص ، يهدف إلى الانتفاع بكل الرصيد السياسي لصيغة النص في الأمة، دون الالتزام الصريح بها ، ليتمكنوا من الانقلاب عليها في عملية تضليل كبرى للرأي الإسلامي العام.
لقد مشت الدعوة العباسية خطاها في ظل هذا الشعار . وحين أنجزت مشروعها السياسي بإسقاط النظام الأموي وإقامة الدولة العباسية أنجزته باعتباره المشروع السياسي الذي يرتكز على صيغة النص.
لقد ادعى العباسيون منذ أول خطبة لأبي العباس السفاح بعد بيعته في الكوفة أنهم أنجزوا المشروع السياسي لآل البيت ،آل علي ، بني هاشم ، ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 
بانجاز المشروع العباسي تداول الفكر السياسي الإسلامي ثلاث صيغ للإجابة على السؤال المركزي في المشكلة السياسية الإسلامية في عهد حضور الإمام المعصوم. وهو السؤال المتعلق بمصدر شرعية القيادة على مستوى التطبيق بعد الفراغ عن كون جميع الكيانات السياسية الإسلامية تنتمي إلى الإسلام وتدعي تطبيقه.

1- صيغة النص : وهي صيغة خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي دأبوا على تأصيلها في ذهنية الأمة ، وتوعية الأمة بها ، بحيث غدت ـ كما أشرنا ـ موضع قناعة عامة عند جميع المسلمين . أما باعتبار الصيغة الشرعية الوحيدة لشرعية القيادة ، أو باعتبارها أفضل الصيغ لذلك.

2- صيغةالبيعة: وهي تتجاهل صيغة النص إطلاقاً ، فلا تعترف بشرطية النص مباشرة ولا مداورة. 
لقد كان النظام الأموي يقوم على هذه الصيغة ، وبعد سقوطه في المشرق أعاد تكوين نفسه في الأندلس على أساس أن مصدر شرعية القيادة فيه هو البيعة.

3- صيغة (الرضا من آل محمد): وهي الصيغة التي قامت عليها الدعوة العباسية وحققت إنجازها السياسي على أساسها.
إن هذه الصيغة التي تستبطن في جوهرها صيغة البيعة ، تمثل ـ كماقلنا ـ إلتفافاً على صيغة النص للاستفادة من قوتها السياسية من جهة , والفرار من لازمها السياسي من جهة أخرى.
أن اللازم السياسي لصيغة النص هو تولّي الإمام المعصوم ، وهذا ما عمل العباسيون جهدهم لتفاديه ، مع حاجتهم الماسة ـ لأجل نجاح دعوتهم ـ إلى الرصيد السياسي لصيغة النص في الأمة ، فكانت صيغة (الرضا من آلمحمد).
وتعبيراتها الأخرى ؛ العلويون ، الهاشميون، آل البيت، ذرية النبي،العترة، هي الأداة النظرية الإيديولوجية السياسية لتحقيق هدفهم.

وقد تم لهم ذلك على أساس الآلية التالية: 

لقد اقترنت صيغة النص في ذهنية الأمة بأهل البيت (عليهم السلام) فكان ذكر النص ينقل الذهن رأساً إلى أحقية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان ذكر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معرض العمل السياسي يستحضر في الذهنية العامة للأمة صيغة النص .
وقد استغلت الدعوة العباسية هذا التلابس والتلازم بين صيغة النص وبين عنوان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) باعتباره التشخيص المادي لصيغة النصفي المجتمع الإسلامي. 
ومنذ انتصارهم طوّر العباسيون نظريتهم التي استندوا إليها، لمواجهة حالة الصدمة التي تولدت عن انكشاف الحقيقة لدى بعض كبار قادة الدعوة وقيادات الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم يعملون ضد الأمويين على أساس صيغة النص .
فاستعمل العباسيون مقولة الثأر لآل محمد) لتبرير الإمساك بالسلطة سياسياً، كما استعملوا مصطلح: ( الحق ، الإرث ) لتبرير وضعهم أيديولوجياً؛ باعتبار أن هذا الأسلوب هو الخطاب السياسي المفهوم شعبياً لمظهر لصيغة النص عند بعض الفئات الشعبية التي لم تكن وثيقة الصلة بتيار أهل البيت (عليهم السلام) في الأمة ، ويمكّن علماء السوء والمفكرين المأجورين من المناورات الفكرية والكلامية لتضليل الرأي عن المدلول الحقيقي لصيغة النص.

المواجهة التحريفية الجديدة ومأزق الحكم العباسي:

أمام انتصارالعباسيين وانجاز مشروعهم لم يتوقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم عنعملهم السياسي في الأمة على أساس صيغة النص.
ولم تعد المواجهة مع صيغة البيعة وحدها . لقد دخل عنصر مفهومي سياسي جديد هو مقولة : ( الرضا من آل محمد ) والشرعية التي يدّعي العباسيون اكتسابها على أساس هذه الصيغة بالوصية من إبراهيم بن محمد بنالحنفية .
لقد واجه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم هذه الحالة الجديدة بقوة . ولعل دراسة معمّقة لنصوص الإمامة بعد قيام الدولة العباسية تكشف عن تطور في كمية هذه النصوص محتواها الفكري من حيث مقدار العناصر الفكرية العقيدية التي اشتملت عليها، ومن حيث التشديد على مركزية الإمامة في عقيدة الأمة.

إن عمل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم في توعية الأمة وتثقيفها في المسألة السياسية على قاعدة النص ، وانكشاف حقيقة الحكم العباسي المزورة من حيث مصدر شرعية القيادة على مستوى التطبيق ، وانكشاف الالتباس الذي استغل وراء ستار شعار: ( الرضا من آل محمد ) . . . 
كل ذلك أعاد الوعي إلى ذهنية الأمةبالنسبة إلى صيغة النص ومقولة الإمامة.
وقد أدت هذه الثقافة من جهة , ومظالم الحكم العباسي من جهة أخرى إلى تغذية الحالة الثورية في الأمة على أساس النص . وفي كثير من الحالات تحت شعار: (الرضا من آل محمد) نفس الشعار الذي قامت في ظله دولة العباسيين واكتسبت شرعيتها من إيحاءاته ، مما يعني تجريداً كاملاً للسلطة العباسية من شرعية القيادة ، ويطرح فكرة التغيير الجذري الكامل بدلاً من فكرة الإصلاح.
بهذا يتضح لنا المأزق الذي بدأت تعاني منه الدولة العباسية بشكل خطيرعلى مستوى أساس الشرعية للقيادة ، في نطاق نوع ثان من المآزق السياسية النابعة منالصراعات السياسية والعسكرية داخل الدولة بين القوى الكبرى التي تكوّن دولة الخلافة، إضافة إلى صراعات الأجنحة داخل البيت العباسي نفسه.
وقد واجهت السلطة العباسية منذ عهد مبكر، منذ أيام المنصور، مأزقها الشرعي بسياسة قمع العلويين بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، إضافة إلى جانب استخدام المقولات الفكرية والفقهية في المسألةالسياسية ، مثل مقولة : الحق ، والإرث ، والقرابة ، وأقربية بني العم من بني البنت .
لقد استخدم الفقه والفكر والأدب وعلم الكلام ، في هذا الصراع السياسي ، وأنشأت بعض الفرق الكلامية الوهمية لطرح بعض الأفكار والمقولات المستخدمة في هذا الصراع منخلالها.
ولكن أثبتت التجارب المريرة دائماً أن نتائج المعالجة السياسية والقمعيةلم تقتصر على الفشل فقط ، وإنما كانت تغذي الاتجاهات الثورية الرافضة للحكم العباسي بمزيد من المبررات للانتشار والاستمرار.
وقد أدرك المأمون عقم هذا الأسلوب في المواجهة مع المأزق الذي ولدته صيغة النص.
لقد أدرك أنه يستطيع أن يعالج المأزق الناشئ من صراع الأجنحة داخل البيت العباسي وصراع القوى الكبرى داخل النظام ـ بالوسائل السياسية والعسكرية بنجاح ـ ولكنه لا يستطيع أن يعالج المأزق الأول ـ مأزق صيغة النص ـ بالوسائل نفسها ، لأن له طبيعة أخرى تجعله عصياً على هذه الوسائل.
إن الوسيلة السياسية لا تجدي بالنسبة إليه نفعاً ، والوسيلة العسكرية تزيده احتداماً وتأججاً.
والعباسيون أكثر الناس خبرة بعدم فعّالية الوسائل السياسية في هذا النوع من المآزق ، وبالتأثر العكسي للوسائل العسكرية ، ويكفي أن يتذكروا كيف عالج الأمويون مشكلة خراسان في بداية الثورة العباسية ليتعلموا منها درساً.
لقد واجه المأمون المأزقين معاً. وقد استمر في معالجة المأزق الثاني بالوسائل السياسية والعسكرية المألوفة، ولكنه واجه المأزق الأول والأساس ، مأزق الشرعية، بعقلية مدركة لطبيعة ولأسلوب معالجته.
لقد أدرك المأمون إن هذا المأزق يجب أن يعالج بوسيلة منسجمة مع طبيعته.
انه مأزق إيديولوجي له مفاعيل سياسية , فلا يعقل أن تعالج مفاعيله دون أن يعالج من أساسه . ووسيلته المناسبة يجب أن تكون إيديولوجية أيضاً.
وهكذا ولد في ذهنه الحل الإيديولوجي لمأزقه الإيديولوجي، وهوإسناد ولاية العهد للإمام علي بن موسى بن جعفر (عليهما السلام) بلقب الرضا.
إن البراعة في الحل هي أنه يعيد الدعوة العباسية من أولها ، ويعيد الفعّالية والإقناع إلى شعار: ( الرضا من آل محمد ) بأسلوب جديد يتجسد في الشخص الذي يمثل ( الرضا من آل محمد ) في الذهنية العامة للأمة، لا بصورة سديمية وغامضة ، وإنما في الشخص المحدد الذي يمثل في مرحلته التاريخية صيغة النص بأكمل صفائها.
وان براعة الفكرةهي في أنها تقدم حلاً نموذجياً للمأزق ملائماً لأقصى أماني المأمون.
إنها ـمنجهةـ تعطي الشرعية للقيادة، ومن ثَمّ تقضي على المأزق الإيديولوجي السياسي ، ومن ثم توفر الشرعية لكل المواجهات السياسية والعسكرية مع حركة الثورة.
ومن جهة أخرى تؤجل الاستحقاق , فهي ولاية عهد وليست نقلاً للسلطة . وهي ولاية عهد مشكوكة التحول إلى ولاية حكم إذا لاحظنا أن الإمام الرضا (عليه السلام) كان أسن من المأمون بـ (22) عاماً.
وانبراعة الفكرة أيضاً في أنها تقلب المعادلة تماماً , فبينما المأزق الإيديولوجي هومأزق المأمون والسلطة العباسية إذا هو يتحول إلى كونه مأزق أصحاب صيغة النص ورمزهم الذي يجسد صيغة النص ، وهو الإمام الرضا (عليه السلام).

الجانب المشكل في قضية ولاية العهد: 
إن المسألة من جانب واحد . ذلك أن من الطبيعي جداً والمفهوم تماماً أن يعهد حاكم يتولى السلطة بدون شرعية ، ويعاني من مصاعب ويواجه أخطاراً بسبب ذلك ، بتولي السلطة من بعده لصاحب الحق الشرعي الذي يزيد عمره اثنين وعشرين عاماً. وأن يتم ذلك في عملية محسوبة بدقة من قبل الحاكم الفعلي الذي يريد أن يتغلب على مصاعبه بهذا الأسلوب.
إن تفسير المسألة من هذا الجانب سهل ميسور ، بعد وضوح ملابساتها وأهدافها واحترازتها، وعلى ضوء معرفتنا بالنقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية.
ولكن من غير الطبيعي وغير المفهوم أن يقبل صاحب الحق المسن بولاية العهد هذه التي تتضمن مخاطرة الاعتراف بشرعية الحاكم الفعلي ، وتساعده على التخلص من مصاعبه مقابل وعد بتولي الحكم في ظروف تقضي طبيعة الأشياء فيها بأنه وعد غير ممكن التحقق نظراً لفارق السن بين الحاكم وولي عهده ، ونظراً لإمكانات الاغتيال المتوفرة دائماً ، ومع وعي هذه الحقيقة الذي يدل عليه قول الإمام الرضا (عليه السلام) : (( انه أمر لا يتم )) ومع وعيه إن خطوة المأمون لم تتخذ نتيجة لاقتناع برد الحق إلى أهله، وإنما نتيجة لضغط الضرورة.
إن هذا الجانب هو المشكل في المسألة.
وفهم هذا الجانب المشكل يقتضينا أن نعود إلى الهدف الأساس لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ، فعلى ضوئه نفهم لماذا امتنع الإمام الرضا (عليه السلام) أولاً ، وقبل بعد ذلك البيعة بولاية العهد للمأمون ، بيعة الموت.

قلنا: إن هذا الهدف يتقوم بأمرين:

الأول: حفظ الإسلام من التحريف، والتزوير، والتأويل الفاسد.
والثاني: حفظ أتباع الخط الإسلامي الصحيح , أتباع صيغة النص والأقرب إليه فالأقرب من المسلمين ؛ من الجهل، والفتنة،والقتل.
لقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) في امتناعه وقبوله ، وطريقة حياته ولياً للعهد يتخذ المواقف المناسبة لهذا الهدف ، ويتخذ الخطوات المؤدية إليه ، وسط دهشة المدهوشين ، وسخط الساخطين ، وتربص المتربصين.

لقد كان يعي أن البيعة المعروضة عليه هي بيعة الموت . وكان يعي مأزق المأمون والخلافة العباسية ، وكان يعي أهداف المأمون من عرض ولاية العهد. وكان يعي مأزقه هو بهذا العرض الذي يحمل خطرالاعتراف بشرعية حكم المأمون ، ومن ثم الاعتراف بشرعية الخلافة العباسية.
وكان يعي طبيعة الشراك التي ستنصب في طريقه ، وليس أقلها شأنهاً وخطراً محاولة إدخاله في جهازي حكم وإدارة لم يشكلهما هو، ولا يتلاءمان مع توجهاته في الفكر ، والسياسة والأخلاق.
لقد كان يعي كل ذلك , ولذا فقد كان موقفه الأول من العرض هو الرفض والإباء ، واستمرت محاولات المأمون وبطانته في الإقناع، واستمر هو على امتناعه إلى أن واجه التهديد المبطن والصريح بالقتل ، فقبل ولاية العهد (( وهو باك حزين )) كما تقول كثير من الروايات. وقد شرح الإمام الرضا (عليه السلام) قبوله لبعض أصحابه وفي مناسبات متنوعة بهذا التعليل.
إن الرفض مفهوم، لأنه ينسجم مع وضعه العام، ومع فهمه لأهداف المأمون، ومع وعيه لأهدافه هو من حياته. ولكن القبول يحتاج إلى تفسير إن التهديد بالقتل ـبما هو تهديد للحياة الشخصيةـ ليس سبباً كافياً بنظرنا لفهم القبول.
إن موقف الإمام الرضا (عليه السلام) يشبه من وجوه موقف الإمام الحسين (عليه السلام) بصيغة تناسب شخصية المأمون وعصره ، وقد تحمل الإمام الحسين (عليه السلام) خيار الشهادة.
إن علينا أن نبحث عن سبب أعمق من المحافظة على الحياة الشخصية وراء قبول الإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد ، وأوفق بشخصيته كإمام معصوم، وأوفق بالهدف الثابت للأئمة المعصومين (عليهم السلام).
بل إننا نرى إن المحافظة على الحياة الشخصية لا تدخل في الأسباب الحقيقية للقبول ، لأننا نرى أن مجرد ولادة فكرة ولاية العهد في ذهن المأمون كان تحكماً بالقتل على الإمام الرضا (عليه السلام) .
ونقدّر أن الإمام كان يعي هذا ، ولعله لذلك لم يصحب أحداً من آله إلى ( مرو ) ظناً بهم أن ينزل بهم ما سينزل به.
لقد كان محكوماً بالقتل إن لم يقبل، وكان محكوماً بالقتل إن قبل. والفرق بين الحالتين هو فعلية التنفيذ وتأجيل التنفيذ.
ونقدر أن إباءه ورفضه كان لكشف المزيد من مكنونات خطة المأمون ونواياه ، وشبكة العلاقات التي تدير عملية ولاية العهد من خلال أطرافها . ولم يكن رفضه لولاية العهد مجرد رد فعل ساذج وبسيط.
إننا نرى في الإمام الرضا (عليه السلام) وموقفه ـ مع ملاحظة اختلاف العصور والعهود وطبيعة الخصم ـ مشابهة قوية من الإمام الحسن (عليه السلام) وموقفه.

والفروق بينهما ناشئة من أن الإمام الحسن (عليه السلام) واجه الحكم بالموت بصيغة التعجيل أو بصيغة التأجيل وهو يسلب مافي يده . وواجه الإمام الرضا (عليه السلام) الحكم بالموت بصيغة التعجيل أو بصيغة التأجيل من خلال عرض كاذب بأن يأخذ في المستقبل حقه المسلوب ولكن ليسلب الآن أساس شرعية هذا الحق ، فاختار صيغة التأجيل ـ كالإمام الحسن (عليه السلام) ـ لأنها أوفق بهدف الأئمة (عليهم السلام) الذي خطا إليه الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال صيغة التعجيل لأنها أوفق بظروفه ، وظروف الأمة في عصره ، وأوصل إلى الهدف الثابت للأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، وأشد تدميراً لخصمه يزيد وللنظام الأموي.



المشاركات الشائعة من هذه المدونة