الأصولية والأخبارية بين الأسماء والواقع

الأصولية والأخبارية بين الأسماء والواقع

لسماحة المرجع الديني الكبير
السيد محمد سيعد الطباطبائي الحكيم (دام ظله)



بِسـم الله الرّحمـن الرَّحيـم

سماحة السيد الجليل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيـم (دامت إفاضاته).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتـه..
لا زال بعض المؤمنين يرى في الأخبارية منهجاً فكرياً أصيلاً ومغايراً عن المنهجية الأُصولية، ويقول: «إنه لا يمتلك القناعة والحجة التامة بينه وبين الله عزّوجلّ في سلامة وحجية الاستنباط الأُصولي».

ويفند رأي أحد الفقهاء العظام:
«الأُصولية المعاصرة أُصولية نظرية فقط، ولكنها عملياً تتفق مع الخط الأخباري».
مدعياً أن هذا القول يفتقد الدقة العلمية، فهناك قضايا لا يعتمد فيها على الكتاب والسنة، كمسألة الأعلمية، وتقليد الميت ابتداءً.

ويرى طرف آخر:
«أن مسألة العقل والإجماع قبرت منذ زمن الشيخ الأنصاري(قدس سره) (1) ولا توجد مسائل عملية يتوقف عليها إلا نادراً».
سماحة السيد.. أمام هذا العرض نفتقد إلى الكلمة العلمية الدقيقة المبينة للمنهجية العلمية والقناعة الذاتية، نرجو إفادتنا بإسهاب حول ذلك.
عبد الرضا ـ البحرين
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري (1214هـ ـ 1281هـ)، ينتهي نسبه إلى الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري. شيخ مشايخ الإمامية، انتهت إلية رئاسة الإمامية بعد مشايخنا الماضين وهو بها حقيق، إذا لا يباريه أحد في التقي وكثرة الصلاة والصلات، والعلم أصولاً وفروعاً، والعمل وحسن الأخلاق... (أعيان الشيعة 10 : 118).


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد.. فإن الوصول للحقيقة في هذه المسألة يفرض على الباحث أن ينظر في أعماق المشكلة بموضوعية وانفتاح وتحرر وتجرد عن التراكمات والمضاعفات التي أفرزتها الخلافات والمنافرات في هذه المدة الطويلة.
ونحن ـ في الوقت الذي كان يحزّ في نفوسنا ـ ككثير من المخلصين ـ هذا الانقسام والتحزب بين أبناء هذه الطائفة ـ قد حاولنا جاهدين معرفة الحقيقة، والبحث عن واقع هذا الخلاف منذ أمد بعيد، يزيد عن أربعين عاماً، سواءً كان ذلك بالرجوع للبحوث التي حامت حول الخلاف المذكور، أم للبحوث الأُصولية والفقهية التي قام بها من يحسب على كل من الطرفين، أم بالاستماع إلى وجهات النظر المختلفة مِمَّن هم معنيون بالأمر، أم بالحوار الصريح مع مَن لهم إلمام بالمشكلة وإحاطة بها من ذوي المقام الرفيع في العلم والتقوى والعمق والحكمة. ونخص منهم بالذكر المرحوم المقدس المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين (قدس سره) (1) .
وقد حصلت لنا من جميع ذلك قناعة ذاتية حول الموضوع نرجو أن نكون قد وفقنا فيها، وستتضح معالمها وشواهدها في هذا الحديث الذي رغبتم إلينا في الدخول فيه من أجل الوصول للحقيقة.
ونتيجة لهذه القناعة لا يهمنا الدفاع عن منهجية خاصة نسميها بالمنهجية الأُصولية أو منهجية المجتهدين، ولا عن منهجية خاصة نسميها بالمنهجية الأخبارية أو منهجية
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ محمد أمين زين الدين (1333 ـ 1319 هـ. ق)، عالم جليل، وكاتب فاضل، ومؤلف فذ، ومتتبع عبقري، وباحث إسلامي. أخذ الأوليات في البصرة... تتلمذ على الشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني والسيد حسين البادكوبي وتصدى للتدريس والتأليف وأصبح ممن يُشار إليه في التأليف والكتابة والنظم والتقوى والأخلاق وحسن السيرة... (معجم رجال الفكر والأدب 2:650).

المحدِّثين، ولا التفنيد لإحدى المنهجيتين بخصوصيتها، ولا إرجاع إحدى المنهجيتين للأُخرى في محاولة للتوفيق بينهما.
كل ذلك لعدم وضوح معيار كلٍّ من المنهجيتين، وعدم تحديد ركائز كل منهما وفوارقهما.
فإن ما يذكر من وجه الفرق بينهما لا يصلح فارقاً، فضلاً عن أن يوجب الانقسام وامتياز كل من الطرفين عن الآخر، وما استتبع ذلك من فُرقة وتنافر.
لأنها بين خلافات لفظية لا حقيقة لها، وخلافات فقهية أو أُصولية بين جميع العلماء على اختلاف مناهجهم، من دون أن تمتاز به إحدى الفئتين عن الأُخرى، كما أوضح ذلك غير واحد.
وقد استوفى الكلام فيه المحقق البحراني (قدس سره) (1) في المقدمة الثانية عشرة من مقدمة كتابه الجليل (الحدائق الناضرة) (2)، وفي الدرة الثامنة والأربعين من كتابه (الدرر النجفية).


ـــــــــــــــــــــ
(1) قال في منتهى المقال: «يوسف بن أحمد بن إبراهيم... الدرازي البحراني، عالم، فاضل، متبحر، ماهر، محدث، ورع، عابد، صدوق، ديِّن، من أجلة مشايخنا المعاصرين و أفاضل علمائنا المتبحرين...توفي في شهر ربيع الأول سنة1186 هـ».
انظر منتهى المقال 7 : 74 ، أعيان الشيعة 10 : 317.
(2) الحدائق الناضرة 1: 167.

* * * * *
بل إن التباس معالم الخلاف وركائزه يمنعنا من نسبة كثير من علمائنا الأعلام (قدس سرهم) إلى إحدى المنهجيتين بعد عدم تصريحه بالانتماء لواحدة منها.
كما ربما يوجب ذلك التباس الحال في بعضهم، فتختلف نسبته باختلاف الناسبين له، كشيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) (1)، حيث عدّه في المقدمة الثانية عشرة من مقدمات كتاب الحدائق من أساطين المجتهدين (2)، وعدّه بعضهم من الأخباريين.
وكالمجلسي (قدس سره) (3)، حيث عرف عنه أنه من الأخباريين، وعدّه في الفائدة الثانية من كتاب (الحدائق) من متأخري المجتهدين (4).
ـــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن الحسن بن علي الطوسي (460 هـ)، شيخ الإمامية، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة، عين، صدوق، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام والأدب وجميع الفضائل تنسب إليه، صنف في كل فنون الإسلام، وهو المهذب للعقائد في الأصول والفروع، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل. (الخلاصة: 148).
(2) الحدائق الناضرة 1: 168.
(3) محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1027 هـ/ 1110 هـ) عالم، فاضل، ماهر، محقق، علامة، فهامة، فقيه، متكلم، محدث، ثقة ثقة، جامع للمحاسن والفضائل، جليل القدر، عظيم الشأن... له مؤلفات كثيرة مفيدة، منها: بحار الأنوار في أخبار الأئمة الأطهار.. (امل الآمل 2 : 248).
(4) الحدائق الناضرة 1: 15.

وكصاحب الحدائق نفسه الذي اشتهر عنه أنه من الأخباريين، مع أن كلامه في الكتابين المتقدمين صريح في عدم الفرق بين الفئتين...
إلى غير ذلك مّما يجعلنا على قناعة تامَّة بعدم وضوح معالم الخلاف وركائزه أولاً، ثم بعدم الجدوى في تحديد كلٍّ من المنهجيتين وتمييزها عن الأُخرى، لننظر بعد ذلك في ما هو الحقيق بالقبول أو الرفض منهما، أو نحاول التقريب بينهما.
وفي الحقيقة فإن تحديد إحدى المنهجيتين وتمييزها عن الأُخرى ـ بعد كل ذلك ـ لا يخرج عن أن يكون تحديداً للاصطلاح. وقد شاع بين أهل المعرفة: أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

ولا سيما وأن هذا الاصطلاح..
أولاً: قد أضرَّ بوحدة الطائفة الحقة، وجرّ عليها محنة التفرق، والانشقاق، والتهريج، والتشنيع المتبادل، بنحو قد يصل حدَّ الإغراق المأساوي، خصوصاً في المناطق التي تجمع بين الفئتين وتتعرض للاحتكاك بينهما.
مع أن الطائفة في غنىً عن ذلك كله بعد وحدتها تحت راية أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم سفن النجاة، وحبل الله المتين، وصراطه المستقيم.

وثانياً: أن الانشقاق بطبعه يجرّ للتعصب، الذي قد يمنع من مصداقيَّة الرؤية، ويحول دون الوصول للحقيقة، لأن من شأنه أن يضفي على ركائز الخلاف المفروضة قدسيَّة، ويحيطها بهالة من الإحترام، قد يفقد بها الباحث الموضوعية في البحث.
بل قد لا يستطيع حتى التعديل فيها والتحوير لها لو اقتضته الأدلة، فتفرض نفسها بسبب التعصب المذكور، والقناعات المسبقة، ويتم التمسك بها، والجمود عليها، والدفاع عنها بصورتها التي أطلقت بها، وبذلك تضيع الحقيقة على طالبها.

وقد يشهد بما ذكرنا أن الفرق العلمي بين الأخباريين والأُصوليين أقل بكثير من الفرق بين الانفتاحيين ـ الذين يرون وجود الحجج الكافية على الأحكام الشرعية العملية ـ والانسداديين ـ الذين يمنعون من ذلك، ويضطرون للبناء على حجية الظن المطلق من دون خصوصية للأخبار.
لكن الخلاف المذكور ـ بين الانفتاحيين والانسداديين ـ لمّا لم يحمل مصطلحات وحدوداً طائفية بقي خلافاً علمياً محضاً، وكان البحث فيه موضوعياً صرفاً، واختلفت وجهات النظر بين الأعلام من الطرفين في مراتب الانسداد والانفتاح، وفي الثمرات المترتبة عليهما، وبقي الكل تحت وحدة جامعة، وهي فقه أهل البيت(عليهم السلام)، لا يفرق بينهم اختلاف مناهجهم، ولا يرى بعضهم عدم براءة الذمة في أحد المناهج، بل بقيت ضوابط التقليد العامة نافذة على الطرفين، مع تبادل حسن الظن، بل التقديس والتعظيم والتبجيل.
حتى ذكروا أن المحقق القمي (قدس سره) (1)، الذي هو انسدادي المنهج، كان في النجف الأشرف والناس في دور الفحص عمن يقلّدون بعد المرجع الشهير الشيخ كاشف الغطاء الكبير(قدس سره) (2)، فطلبوا منه أن يرتاد لهم، ويتحرى عن الأعلم من بين العلماء الموجودين في النجف الأشرف آنذاك، وبعد أن استكمل الفحص أرجع لولده المرحوم الشيخ موسى كاشف الغطاء(قدس سره) (3).

وكذا الحال في الخلاف بين المشهور ـ الذين لا يتشددون في السند، ويرون انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب، ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم ـ ومثل المرحوم المقدس الأردبيلي (قدس سره) (4)، وتلميذيه صاحبي المدارك (5) والمعالم (6)، والسيد الخوئي (قدس سرهم) (7) ومن جرى على منهجهم ممّن لا يرون ذلك، ويتشددون في أمر السند.
لكن الخلاف المذكور لم يوجب انحيازاً بين المنهجين، وبقي الناس على موازينهم العامة في التقليد، حتى أن المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) كان يصرح بجواز البقاء على تقليد سيدنا الجد السيد الحكيم (قدس سره) (8) ـ مع أنه كان على منهج المشهور مخالفاً لمنهجه ـ في موارد احتياطاته الوجوبية، بل مطلقاً في حق من لم يثبت عنده أن السيد الخوئي أعلم من السيد الحكيم.
كل ذلك من أجل مراعاة موازين التقليد العامة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ الميرزا أبو القاسم بن المولى محمد حسن الجيلاني الشفتي القمي (1151هـ ـ 1231هـ)، من أركان الدين وكبائر المؤسسين، ومن مشاهير محققي الإمامية.. من مؤلفاته (القوانين المحكمة) في الأصول. (طبقات أعلام الشيعة ـ القرن 13ـ 1 : 52)
(2) الشيخ جعفر كاشف الغطاء، الكبير، (1154 ـ 1227 هـ)، شيخ الطائفة، وزعيم الإمامية، ومرجعها الأعلى في عصره، وفي طليعة فقهاء الشيعة، وشيخ مشايخ المسلمين، وصاحب المآثر الخالدة، وكان من العلم والتقوى والصلاح والزهد والعبادة والورع بمكان عظيم، وكانت ملوك آل عثمان ينظرون إليه بعين الإكبار والإجلال والعظم والخشية... كما إن رئاسته بلغت القمة والذروة وامتد نفوذها وسمت مكانتها في كافة الأقطار... دافع عن النجف الأشرف في حادثة الوهابية فوقف في وجه الغارات السعودية وجند الشباب وسلحهم.( معجم رجال الفكر والأدب 3: 1308).
(3) الشيخ موسى بن الشيخ جعفر الكبير (1180 ـ 1243 هـ)، عالم كبير متضلع في الفقه، والعلوم العقلية والنقلية، ومن كبار المراجع، ولقِّب (سلطان العلماء)، وكان عالماً حقاً، وزعيماً روحياً محلقاً، وفقيهاً أصولياً مدققا، ومن أساطين العلماء والمدرسين، ووجهاً من وجوه الفقهاء والمؤسسين...(معجم رجال الفكر والأدب ج3: 1052).
(4) الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي (993 هـ)، كان عالماً، فاضلاً، مدققاً، عابداً، ثقة، ورعاً، عظيم الشأن، جليل القدر... له كتب منها: شرح الإرشاد... وتفسير آيات الأحكام... (أمل الآمل 2: 23).
(5) السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي، (1009 هـ) كان عالماً، فاضلاً متبحراً، ماهراً محققاً، مدققاً، زاهداً، عابداً، ورعاً، فقيهاً، محدثاً، كاملاً، جامعاً للفنون والعلوم، جليل القدر عظيم المنزلة. (أمل الآمل 1: 167).
(6) الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين ابن علي بن أحمد الشهير الثاني العاملي الجبعي. كان عالماً، فاضلاً، عاملاً، كاملاً، متبحراً، محققاً، ثقةً، فقيهاً، وجيهاً، نبيهاً، محدثاً، جامعاً، للفنون، أديباً، شاعراً، زاهداً، عابداً، ورعاً، جليل القدر، عظيم الشأن، كثير المحاسن، وحيد دهره، أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال. له كتب ورسائل: منها كتاب منتقى الجمان... وكتاب معالم الدين.
(أمل الآمل 1: 57).
(7) السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413 هـ)، فقيه، أصولي كبير، ومجتهد محقق نحرير، وعالم مدقق، ومن كبار مراجع التقليد، وأساتذة الفقه والأصول... تتلمذ على شيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ مهدي الأصفهاني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمد حسين الأصفهاني، والشيخ النائيني. (معجم رجال الفكر والأدب ج2/ 532).
(8) السيد محسن الحكيم (1306 ـ 1390 هـ)، فقيه العصر، وسيد الطائفة، وزعيم الأمة، كبير مراجع التقليد والفتيا... كان له الزعامة الدينية العامة، والمرجعية الروحية المطلقة، والرئاسة العلمية، قام بمشاريع ومآثر خالدة، وتصدى للتدريس والتأليف... ازدهرت الحوزة النجفية ونشطت الحركة الفكرية على عهده، توفي في ربيع الأول 1390 هـ. (معجم رجال الفكر والأدب 1 :432).

* * * * *
بل حتى اختلاف المنهجيتين الأُصولية والأخبارية نراه لا يمنع الكثير من الطرفين من نظرة الاحترام والإجلال للأشخاص ولآرائهم العلمية.
فالحر العاملي (1)، والمجلسي، والكاشاني، وصاحب الحدائق (قدس سرهم) ونحوهم ممَّن يحسب على الأخباريين والمحدثين حينما يتعرضون لآراء أو كتب مثل الشيخ المفيد (2)، والسيد المرتضى (3)، وسلاَّر (4)، وابني زهرة (5) وإدريس (6)، والطبرسي (7)، والمحققين (8)، والعلامة (9)، والشهيدين (10)، والبهائي (11)، وصاحب المدارك (قدس سرهم) وغيرهم ممَّن يحسب على المجتهدين والأُصوليين، يتعاملون معها ومع أصحابها باحترام وإجلال.
وكذا الحال في العكس، حيث نرى من يحسب على الأُصوليين يستعرضون آراء وكتب مثل الصدوقين (12)، والحرّ العاملي، والمجلسي، والكاشاني، وصاحب الحدائق بكمال الاحترام والإجلال لها ولأصحابها أيضاً، حتى لا يكاد يتبين الفرق في المنهجية عند النظر لعامَّة الكتب العلمية المعروفة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن الحسن بن علي بن محمد الحر العالمي (1104هـ)، علم لا تباريه الأعلام، وهضبة فضل لا يفصح عن وصفها الكلام، أرجت أنفاس فوائده أرجاء الأقطار، وأحيت كل ارض نزلت بها فكأنها لبقاع الأرض أمطار. تصانيفه في جبهات الأيام غرر، وكلماته في عقود السطور درر... وله شعر مستعذب الجنى بديع المجتلي والمجتنى... (سلافة العصر:359).
(2) محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (338 ـ413 هـ)، يكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن المعلم، من جملة متكلمي الامامية، انتهت اليه رئاسة الامامية في وقته وكان مقدماً في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدماً فيه، حَسَنُ الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب... وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف والموافق. (فهرست الطوسي: رقم 710 / رجال النجاشي2: 327).
(3) الشريف أبو القاسم على بن الحسين بن موسى (المرتضى) (436هـ)، حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا.(رجال النجاشي2: 102).
(4) سلاّر بن عبد العزيز الديلمي (448 ـ463)، ثقة، جليل القدر، عظيم الشأن، فقيه... (أمل الآمل 2: 127).
(5) السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي (511 ـ585 هـ) فاضل، عالم، ثقة، جليل القدر له مصنفات كثيرة منها: عنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع...(أمل الآمل 2: 105).
(6) الشيخ محمد بن إدريس العجلي بحلة... وقد أثنى عليه علماؤنا المتأخرون، واعتمدوا على كتابة، وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم، يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة وغير واسطة، وعن جده لأُمِّه أبي جعفر الطوسي، وأم أمه بنت المسعود ورام، وكانت فاضلة صالحة. مؤلفاته السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، وهو الذي تقدم ذكره، وله أيضاً كتاب التعليقات كبير، وهو حواش وإيرادات على التبيان لشيخنا الطوسي، شاهدته بخطه في فارس. وقد ذكر أقواله العلامة وغيره من علمائنا في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها.(أمل الآمل 2: 243).
(7) أمين الدين، أبو علي، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (548 هـ)، ثقة، فاضل، عين، ديّن، له تصانيف، منها مجمع البان في تفسير القرآن... (أمل الآمل 2: 216).
(8) أولهما: المحقق الحلي، نجم الدين، أبو القاسم، جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي (676 هـ)، حاله في الفضل، والعلم، والثقة، والجلالة، والتحقيق، والتدقيق، والفصاحة أشهر من أن يذكر، وكان عظيم الشأن، جليل القدر، رفيع المنزلة، لا نظير له في زمانه. له كتب منها: كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. (أمل الآمل 2: 48)
ثانيهما: المحقق الكركي، الشيخ الجليل على بن عبد العالي، العاملي الكركي (937هـ)، أمره في الثقة، والعلم، والفضل، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وكثرة التحقيق أشهر من أن يذكر، ومصنفاته كثيرة مشهورة، منها: شرح القواعد... ( أمل الآمل1: 121).
(9) جمال الدين، أبو منصور، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي (726هـ)، فاضل، عالم، علامة العلماء، محقق، مدقق، ثقة ثقة، فقيه محدث، متكلم ماهر، جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، لا نظير له في الفنون والعلوم العقليات والنقليات، وفضائله محاسنه أكثر من أن تحصى...(أمل الآمل2: 81).
(10) الشهيد الاول: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن مكي الجزيني، العاملي (786 هـ) كان عالماً، ماهراً، فقيهاً، محدِّثاً مدققاً ، ثقة، متجراً، كاملاً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهداً، عابداً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه. (أمل الآمل1: 181).
الشهيد الثاني: زين الدين بن علي بن احمد بن محمد بن جمال الدين العاملي، الجبعي(911 ـ 966 هـ)، أمره في الثقة والعلم، والفضل، والزهد، والعبادة، والورع، والتحقيق والتبحر، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وجمع الفضائل والكمالات أشهر من أن يذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى تحصر، ومصنفاته كثيرة مشهورة. (أمل الآمل 1: 85 )
(11) بهاء الدين، محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي، العاملي، الجبعي (953 ـ 1035 هـ) حاله في الفقه، والعلم، والفضل، والتحقيق، والتدقيق، وجلالة القدر، وعظم الشأن، وحسن التصني، ورشاقة العبارة، وجمع المحاسن أظهر من أن يذكر، وفضائله أكثر من أن تحصر. (أمل الآمل 1: 155).
(12) الاول: على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي(339 هـ) شيخ القميين في عصره ومتقدميهم، وفقيههم، وثقتهم. (رجال النجاشي 2: 89).
الثاني: ولده، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (381 هـ)، قال النجاشي: أبو جعفر، نزيل الري، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائف بخراسان، وكان ترد بعداد سنة (355 هـ) وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن. (رجال النجاشي 2 : 311)

* * * * *
نعم، شطّ القلم ببعض الأعلام فعرّضوا بالآخرين تعريضاً قد يصل حدّ التشنيع والتهريج، بل حدّ النيل والتجريح.
وهو أمر مؤسف حقاً، إلاّ أنه لا يقتصر على ما بين هاتين الفئتين، بل يتعداها لأطراف الفئة الواحدة فيما بينهم.
فبعض الأعلام لا يملك نفسه عند عرض قناعاته، بل يتجاوز حدود الحوار العلمي الموضوعي الهادئ إلى النيل ممَّن يخالفه في اندفاع عاطفي يتراوح بين مراتب العنف شدّة وضعفاً، وكثيراً ما يكون عن حسن نية، وقد تميّز بذلك بعض الأشخاص من الفئتين وعرفوا به لكثرة ما يصدر منهم، بينما يوجد متفرقاً في فلتات القلم عند آخرين.
ولسنا بصدد استعراض ذلك، بل الذي يهمنا بيانه أن ذاك تابع لطبيعة الشخص الذاتية، لا لاختلاف المنهجية ليكون من السمات المميزة بين الفئتين.
* * * * *
وعلى ذلك فالاختلاف في مسائل أُصول الفقه وتباين المناهج والمسالك فيها لا يكون منشأ للفرقة بين علماء الطائفة الحقة، ولا بين أبنائها، بحيث ترى كل جماعة فرض المنهج الذي التزمت به، وعدم براءة الذمة بتقليد من هو على خلافه إذا تمت ضوابط التقليد العامة، بعد كون الجميع من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ويحملون شرف الانتماء لهم والائتمام بهم.
كيف ؟! وليس الأثر المهم لاختلاف المنهج في المسائل الأُصولية إلا ما قد يترتب عليه من الاختلاف في المسائل الفقهية التي هي مورد العمل، ولا ريب في أن الاختلاف في المسائل الفقهية لا يوجب تفرقاً في الطائفة، ولا تحزباً فيها، ويبقى المكلف مطلقاً في تطبيق قواعد التقليد العامة على جميع الأطراف.
وإلا فما أكثر اختلاف الأخباريين فيما بينهم، واختلاف الأُصوليين مع بعضهم.
* * * * *
بل قد يبلغ الخلاف حدّ الغرابة بل الشذوذ حتى من الأعيان والأكابر، سواءً كان في مقدمات الاستنباط وفي فهم الأدلة، أم في نفس الحكم المستنبط، كما يتضح للممارس الناظر في كلام الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) وغيرهم من أهل البحث والنظر.
لكنه لا يوجب تجريحاً ولا فرقة بعد كون الوجهة العامة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، مشفوعة بحسن النية، والواقعية، والاهتمام بالوصول للحقيقة. فإن الباحث مهما عظم شأنه معرض للخطأ، والتسديد من الله تعالى والعصمة لأهلها.
* * * * *
وبعد كل ذلك يحسن بنا توضيح المعالم العامة لمصادر فقه الإمامية أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، والأدلة التي عليها يرتكز الجميع وتدور حولها المناهج المختلفة من دون أن يخرج شيء منها عنها، ليتجلَّى ما ذكرنا من أن الخلاف في المناهج لا يضر بوحدة الطائفة المحقة، ولا يكون سبباً في انقسامها.
فقد اتفق المسلمون بجميع فرقهم ونحلهم على لزوم العمل بأحكام الشريعة الإسلامية التي شرّعها الله تعالى، وأودع علمها عند رسوله الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما اتفقوا على الرجوع للكتاب المجيد والسنة الشريفة لمعرفة تلك الأحكام والعمل عليها.
وامتاز الإمامية (أعلى الله تعالى كلمتهم) بالاعتقاد بأن الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) هم المرجع للأُمَّة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أُمور دينهم ودنياهم.
فهم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم، والإقرار بفرض ولايتهم، وهم الوارثون لعلم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والناطقون عنه الذين يجب الأخذ عنهم، والائتمام بهم.
ولهذا الأمر أهميته العقيدية، وبه صارت ولايتهم (عليهم السلام) من أُصول الإيمان التي بها النجاة من النار، والفوز بالجنة، وبها امتازت الفرقة المحقَّة الناجية.
كما أن له أهميته الفقهية، لكثرة ما ورد عنهم (عليهم السلام) من معالم الدين وأحكامه، ومن ثَمَّ كانت سنّتهم (عليهم السلام) وأحاديثهم ـ كسنَّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه ـ مرجعاً فقهياً ودليلاً شرعياً.
وتَبعاً لذلك فقد اتفق الإمامية ـ ثبتهم الله تعالى بالقول الثابت ـ على لزوم العمل بالكتاب الشريف وبأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) مع ثبوتها عنهم شرعاً بحجة كافية.
* * * * *
أما ما عدا ذلك فليس حجة في نفسه، ولا يجوز العمل به إجماعاً، إلاّ أن يوجب العلم بالحكم الشرعي الواقعي، أو بالوظيفة الظاهرية التي يقطع معها بالأمن من العقاب، فلابد من العمل على العلم المذكور.
والعلم بذلك ـ في الحقيقة ـ مستلزم للعلم بالحكم الإلهي المخزون عند الأئمة (عليهم السلام) والوظيفة التي رضيها الله تعالى لعباده، ورضوا (عليهم السلام) بها تبعاً له. وليس بعد العلم شيء.
وحينئذ فالعمل إنما هو بالعلم المذكور، لا بسببه، ونسبة العمل للسبب الذي أوجبه مبنية على التسامح.
* * * * *
وعلى ذلك يبتني الرجوع للإجماع والسيرة وحكم العقل عند القائلين بحجيتها.
ومرجع الخلاف في الرجوع إليها مطلقاً أو في بعض الموارد هو المنع من حصولها، أو من حصول العلم بسببها، وهو أمر لا يختص بفئة معينة، كالخلاف في الرجوع لبعض الآيات الكريمة للخلاف في تمامية دلالتها، أو في وجود الدليل المخرج عنها، وكالخلاف في الرجوع لبعض الأخبار الشريفة للخلاف في ضوابط حجية الخبر سنداً، أو للخلاف في تمامية دلالته، أو في وجود المخرِج عنه أو المعارض له.
* * * * *
على أن الرجوع للإجماع والسيرة يبتني على كشفهما عن السنة الشريفة المطابقة لهما، ولو كانت هي تقرير المعصوم (عليه السلام)، كما يظهر بالرجوع لمباني الأصحاب في المقام.
قال المحقق (قدس سره) في المعتبر: «وأما الإجماع فهو عندنا حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما، بل باعتبار قوله(عليه السلام)» (1).
وعلى ذلك جرى بقية علمائنا (قدس سرهم) ، ومنهم المحقق البحراني (قدس سره) فإنه أقرّ كلام المحقق في المعتبر، إلاّ أنه استبعد تحصيل الإجماع الحجة الذي ذكره المحقق (2)، كما استبعده جمع ممَّن يحسب على الأُصوليين، خصوصاً المتأخرين (3).
وقال الحرُّ العاملي (قدس سره) في الفصول المهمة: «باب عدم جواز العمل بالإجماع الذي لم يعلم دخول قول المعصوم فيه» (4).
وظاهر ذلك مفروغيته عن حجية الإجماع الذي يعلم دخول قول المعصوم فيه وهو الذي صرح به الفيض الكاشاني (قدس سره) (5) في مقدمة كتابه (المفاتيح) (6) .
بل صرح المحقق البحراني (قدس سره) بحصول الإجماع الحجة وكشفه عن رأي المعصوم في بعض الفروض النادرة، حيث قال: «لو انحصر حملة الحديث في قوم معروفين أو بلدة محصورة في وقت ظهوره (عليه السلام) ـ كما في وقت الأئمة (عليهم السلام) ـ اتجه القول بالحجية. ويقرب منه أيضاً ما لو أفتى جماعة من الصدر الذي يقرب منهم ـ كعصر الصدوق، وثقة الإسلام الكليني (قدس سرهم) (7) ونحوهما من أرباب النصوص ـ بفتوى لم نقف فيها على خبر، ولا مخالف منهم، فإنه أيضاً مما يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية، ودخول قول المعصوم (عليه السلام) فيهم، لوصول نص لهم في ذلك.
ومن هنا نقل جمع من أصحابنا أن المتقدمين كانوا إذا أعوزتهم النصوص يرجعون إلى فتاوى علي بن الحسين بن بابويه (8)».
وعلى ذلك جرى غيرهم ، وهكذا الحال في السيرة تقريباً، ولا حاجة لتفصيل الكلام فيها بعد ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــ
(1) المعتبر1: 31.
(2) الحدائق الناضرة 1: 35.
(3) لزيادة التفصيل انظر: المحكم في أُصول الفقه ـ المؤلف(دام ظله) ـ 3: 191.
(4) الفصول المهمة 1: 550.
(5) المولى محمد بن مرتضى المدعو بمحسن الكاشاني (1091هـ)، كان فاضلاً عالماً حكيماً متكلماً محدثاُ فقيهاً محققاً شاعراً أديباً حسن التصنيف، له كتاب الوافي. (أمل الآمل 2: 305).
(6) مفاتيح الشرائع 1: 4.
(7) محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني (329هـ) شيخ أصحابنا في وقته بالري وجههم، وكان أوثق الناس في الحديث، وأثبتهم. صنف الكتاب الكبير ويسمى الكافي في عشرين سنة... ومات أبو جعفر الكليني رحمه الله ببغداد، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، سنة تناثر النجوم، وصلى على محمد ابن جعفر الحسني أبو قيراط، ودفن بباب الكوفة. وقال لنا احمد بن عبدون: كنت أعرف قبره وقد درس رحمه الله.(رجال النجاشي 2: 377، باختصار).
(8) الحدائق الناضرة 1: 36.

* * * * *
على أنه لو فرض الخلاف في الرجوع لهذه الأُمور حتى مع حصول العلم منها ـ للبناء على عدم حجية العلم غير المستند للكتاب والسنة الواصلة من طريق الرواية ـ فذلك أيضاً لا يوجب فُرقة ولا تحزّباً، بل هو وجهة نظر ينبغي النظر إليها نظرة موضوعية، والبحث عن دليلها بتجرد وإخلاص.
وقد حكي عن كاشف الغطاء الكبير (قدس سره) القول بعدم حجية قطع القطّاع (1)، وذهب من المعاصرين المرحوم السيد السبزواري (قدس سره)(2)، إلى إمكان ردع الشارع الأقدس عن حجية القطع (3)، ولم يوجب ذلك انحيازهما عن الفرقة الحقة، ولا قال أحد بعدم براءة الذمة بتقليدهما.
* * * * *
هذا، مضافاً إلى أن هذه الأُمور وإن عدّت من الأدلة ـ بلحاظ ما سبق ـ إلاّ أن توقف استنباط الحكم عليها نادر، بل يكاد يكون معدوماً، لأنها غالباً منضمة إلى الكتاب المجيد والسنة الشريفة، أو الضرورة القاطعة التي يذعن الكل بها، وفي غير ذلك لا تبلغ بنفسها غالباً مرتبة الاستدلال، خصوصاً على المباني الأُصولية الحديثة، كما يشهد بذلك أدنى نظر في الكتب الفقهية الاستدلالية.
* * * * *
وأما المسألتان المشار إليهما في السؤال ـ وهما مسألتا الأعلمية وتقليد الميت ـ فهما لا تخرجان عمّا ذكرنا..
أولاً: لعدم كونهما من المسائل المتفق عليها إثباتاً أو نفياً عند فئة معينة، بل هم ـ بغض النظر عن اختلاف المنهجية ـ بين مانع على الإطلاق، ومجيز على الإطلاق، ومفصل بوجوه مختلفة، كما يشهد به النظر في كلماتهم (قدس سرهم) (4).
وثانياً: لأن بعض من له وجهة نظر فيهما إثباتاً أو نفياً قد يتشبث لرأيه بالكتاب والسنة، بتقريب لا يهمنا الحديث عنه فعلاً، بل يوكل لمحله.
ولو فرض عدم وصول النوبة في إثباتهما أو نفيهما للكتاب والسنة، فالحديث فيهما لا يبتني على التخرصات والاستحسانات الظنية التي هي من فروع إعمال الرأي في الدين المرفوض في خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، بل على حصول اليقين بالوظيفة الظاهرية ـ من الإجماع المدعى، أو السيرة، أو حكم العقل ـ أو عدم حصوله، وقد سبق أن ذلك لا يوجب افتراقاً بعد اتفاقنا على الاعتصام بحبل أهل البيت (عليهم السلام) والبحث عن أحكامهم والأخذ بها.

ـــــــــــــــــــــ
(1) فوائد الأُصول للكاظمي 2: 64.
(2) السيد عبد الاعلى السبزواري (1328 ـ1414هـ)، من مراجع الدين الاجلاء، عالم، مجتهد، جليل، مفسِّر اخلاقي، من أساتذة الفقه والاصول... تتلمذ على الشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والسيد أبو الحسن الاصفهاني، له: مهذَّب الاحكام، تهذيب الاصول، تفسير مواهب الرحمن... (معجم رجال الفكر والادب ج2: 665).
(3) تهذيب الاصول 2: 13،14.
(4) انظر: مصباح المنهاج ـ للمؤلف (دام ظله) ـ الاجتهاد والتقليد.

* * * * *
أما الأخ المؤمن الذي يقول ـ كما ورد في السؤال ـ: «انه لا يمتلك القناعة والحجة التامة بينه وبين الله عزّوجلّ في سلامة وحجية الاستنباط الأُصولي».
فهو ـ وفقه الله تعالى وسدده ـ إن كان من أهل التمييز والقدرة على تحديد مباني الاستنباط الحقة تبعاً للأدلة المعذِّرة أمام الله تعالى، فليس الحجة بينه وبين الله سبحانه إلاّ ما يؤدي إليه استنباطه المبتني على مبانيه الخاصة، أُصولية كانت أو أخبارية ـ لو كان هناك فرق دقيق بين القسمين ـ أو ملفقة منهما و خارجة عنهما.
ولا حرج عليه في أن يختار ما يختار بعد أن كان له أهلية الاستنباط، وكان همُّه الوصول للحقيقة بالوجه المعذر أمام الله عزّوجلّ.
ولا معنى لإلزامه أو التزامه مسبقاً بمنهج خاص بعد فرض الاختلاف في المناهج، وتباين وجهات النظر، وتعرض كل منها للخطأ.
وإن لم يكن من أهل التمييز والنظر وكان عاجزاً عن تحديد مباني الاستنباط الحقة، فهو كما لا يمتلك القناعة والحجة التامة في سلامة وحجية الاستنباط الاصولي، كذلك لا يمتلك القناعة والحجة التامة في سلامة وحجية الاستنباط الأخباري ـ لو كان هناك فرق دقيق بين المنهجيتين ـ ولا يكلفه الله سبحانه وتعالى بذلك بعد عجزه وليس له إلا الرجوع إلى العلماء الربانيين.
ولا يحق له ـ مع ذلك ـ الجزم مسبقاً من دون حجة ولا بصيرة بصحة إحدى المنهجيتين والتشبث بالقائلين بها، وبخطأ الأُخرى والإعراض عمَّن يجري عليها بعد ما سبق من الاختلاف وتباين وجهات النظر، وتعرُّض الكل للخطأ، وبعد غياب العصمة بغيبة الإمام ـ صلوات الله عليه وعجّل فرجه ـ وتعذر معرفة الحقيقة منه مباشرة بوجه قاطع للعذر.
* * * * *
وبعدما استعرضناه في هذا الحديث من الجهات المحيطة بالموضوع والدخيلة فيه فيترتب على ذلك أن وظيفة أهل العلم من هذه الطائفة (سددهم الله تعالى) تناسي هذا الانقسام، والنظر لمفردات الخلاف نظرة موضوعية خالصة، والبحث عن الحقيقة بتجرد عن العواطف والتراكمات، فإن الله تعالى قد أقام عليهم الحجة بما عرّفهم ومكّنهم، وهم قد تحملوا الأمانة في هداية الناس وإرشادهم، وسوف يسألون عن أمانتهم.
كما أن اللازم على المؤمنين عامة (وفقهم الله تعالى) الرجوع في الأحكام الشرعية لفقهاء أهل البيت (عليهم السلام) ممَّن هم أهل للأمانة في تقواهم وورعهم، كما أمرهم بذلك أئمتهم (عليهم السلام) واعتماد الضوابط العامة في الرجوع لهم، من دون تمييز وتفريق.
مع كمال التحفظ والتثبت والتبصر، فإن على كل حقّ حقيقة، وعلى كل صواب نورا.
وليكونوا على بصيرة من أمرهم، وعذر عند ربهم، يوم يعرضون عليه لا تخفى منهم خافية، ليأمنوا من عظيم عقابه، ويفوزوا بجزيل ثوابه، ويكونوا أهلاً لفيضه ورحمته.
* * * * *
وليشكروا الله تعالى على ما منّ عليهم به من وجود فقهاء ربانيين وعلماء عاملين، صحيحين صالحين، قد جدوا واجتهدوا لتحقيق الحقائق ومعرفة أحكام الله تعالى، يفزعون إليهم في غيبة إمامهم (عجّل الله تعالى فرجه) ويلجؤون إليهم في حيرتهم ومحنتهم ليستضيؤوا بهم في ظلمات الجهل ويعتصموا بهم من مضلات الفتن.
* * * * *
وإذا كانت المواقف الانفعالية وردود الفعل المتشنجة ـ عن حسن نية ـ من بعض أطراف الخلاف في بعض المسائل التي تبتني عليها الملامح العامة للمنهجيتين قد عمّقت الخلاف في يوم مّا، حتى انتهى الأمر في حينه إلى الانشقاق والفرقة والجفوة والنفرة والتشنيع والتهريج، بنحو يحزّ في نفوس المؤمنين وتدمى له قلوب المخلصين مما زاد هذه الطائفة محنة على محنتها، وبلية فوق بليتها.
إذا كان ذلك كله قد حصل لملابسات لم نملك السيطرة عليها والتحكم فيها والحدّ منها، فاللازم على ذوي الإخلاص والمعرفة والتعقل والحكمة بعد خمود الفتنة وسكون الفورة تدارك الأمر ورأب الصدع وجمع الشمل، رفقاً بهذه الطائفة المتعبة على طول الخط، وتخفيفاً من معاناتها ومشاكلها، وخدمة للحقيقة الضائعة في خضم المنافرات والمشاحنات.
وذلك بتناسي هذا الخلاف أو تمييعه، والرجوع لما كان عليه وضع الطائفة الحقة قبل ظهور هذه الفتنة من اهتمام مشترك بتحقيق الحقائق الدينية واستنباط الأحكام الشرعية بقلوب منفتحة وموضوعية كاملة ونية خالصة، من دون أن يؤثر اختلاف القناعات وتباين وجهات النظر على وحدة الكلمة، أو يوجب تحيزاً وانقساماً، أو تشنيعاً وتشهيراً. وقد سبق منا الإشارة إلى المواقف الهادفة الهادئة لكثير من الأطراف المحسوبة على إحدى المنهجيتين. شكر الله تعالى سعيهم وزاد في علوّ درجاتهم.
وفي ذلك رضى لله سبحانه وتعالى وقربة له وزلفى لديه، وصلة لإمام العصر وولي الأمر عجل الله تعالى فرجه، وإعانة في محنته، وسرّه في أوليائه وشيعته، عسى أن نحظى بعنايته ورعايته ونفوز برضاه وشفاعته صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
ولنتأدب بأدب الله تعالى حيث يقول: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) (1) وحيث يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (2). ولنحذر تقريعه حين يقول: (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (3).
ولنسترشد بما ذكره علماؤنا الأعلام من ذوي المقام الرفيع في العلم والعمل، والموضوعية في البحث، والحرص على وحدة الكلمة وجمع الشمل.
ونخص بالذكر منهم المحقق البحراني (قدس سره) في حدائقه الناضرة و (الدرر النجفية) فقد أعطى الموضوع حقه بتفهم وانفتاح وإخلاص.
وقد جرى على ذلك من المعاصرين المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني (قدس سره) (4) فأعلن بإصرار عن عدم الفرق بين الطائفتين وأن على المؤمنين أخذ فقه أهل البيت (عليهم السلام) من فقهائهم من دون تمييز أو تفريق.
كما سار على ذلك بحكمة وروية وصبر وتصميم آية الله العظمى المرحوم الشيخ محمد أمين زين الدين (قدس سره) وتجلى ذلك في سيرته الرشيدة وبياناته الهادفة الهادئة، وكان ثمرة ذلك جَنيةٌ مباركة.
فجزاهم الله تعالى خير جزاء المحسنين، ورفع درجاتهم في عليين.
وعمّ بالرحمة والرضوان جميع علمائنا العاملين الذين حافظوا على تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وأوصلوها إلينا، لنؤدي حقها بتوفيق الله تعالى وتسديده.
* * * * *
ونسأله سبحانه أن يجمع شمل المؤمنين، ويُحكم ألفتهم، ويصلح أمرهم، ويشعب صدعهم، ويوفقهم للقيام بحقه وشكر نعمته، حيث وفقهم للتمسك بحبله، وهداهم لولاية أهل بيت نبيه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله ربّ العالمين.

النجف الأشرف
محمد سعيد الطباطبائي الحكيــــم
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحجرات: آية/10.
(2) سورة آل عمران: آية/103.
(3) سورة الأنعام : 159.
(4) الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني (1328 ـ1406هـ) فقيه، أصولي، عالم متضلع في الفقه والاصول، مجتهد، متتبع. هاجر إلى النجف الاشرف وأخذ عن شيوخها ثم عاد إلى المحمرة وأقام بها وتصدى للفتيا والتقليد والامامة. ( معجم رجال الفكر والادب 2: 417).

المشاركات الشائعة من هذه المدونة